ليس ثمّة فسحة تفاؤل في الأفق المسدود لولادة «حكومة العهد الأولى». الكلامُ الإيجابي الذي أُشيع يهدف الى ترطيب الأجواء واختراع الأمل والتخفيف من الضغط الشعبي الذي يئنّ تحت ثقل الكارثة الاقتصادية. وبالتالي فإنّ هذه الأجواء تفتقد الى أيِّ مضمونٍ جدّي وفعليّ وهدفُها ملء الوقت الضائع.
خلال لقاء الربع ساعة بين الرئيس سعد الحريري والوزير جبران باسيل كانت الاجواء باردة، لا بل «جافة». فالحريري المستاء ممّا تتناقله وسائل الإعلام من كلام منسوب الى رئيس الجمهورية حول ارتكاب الحريري أخطاء من مثل إصراره على الحصّة السنّية كاملة من دون أن يكون الزعيم الأوحد لطائفته، هذا الكلام استفزّ الحريري الذي طالب في بداية اللقاء القصير بتوضيح من رئيس الجمهورية حوله. لكنّ باسيل أجاب الحريري أنّ عون ليس مرتاحاً الى مسار الامور حول تأليف الحكومة.
الحريري فهم من الكلام المنسوب الى عون أنه يحاول إرساءَ معادلة ترتكز على مبادلة التمثيل الحكومي للمعارضة السنّية بمطالب «القوات اللبنانية» ووليد جنبلاط.
الفريق القريب من الحريري يلوم فريقه الانتخابي الذي لم يُحسن إدارة العملية الانتخابية والتحالفات التي أجراها ما أدّى الى خسارة كثير من الأصوات السنّية. طبعاً يقصد هذا الفريق هنا التحالفَ الانتخابي مع «التيار الوطني الحر».
الحريري متمسّك حتى الساعة بستة مقاعد وزارية لتيار «المستقبل» وهو ما يعني الحصة الوزارية السنّية كاملة مع موافقته على إجراء مبادلة بمقعد وزاري ولكن ليس بالتأكيد التنازل عن حصة الستة وزراء. وهو بات عاجزاً داخل فريقه السياسي بعد تصاعد مواقف تلوّح بالمحافظة على الحقوق والأوزان.
كما أنّ الحريري ملتزم ومتمسّك بمطالب «القوات اللبنانة» والتي رست على اربعة وزراء، ومطالب جنبلاط المتمسّك بالحصّة الوزارية الدرزية كاملة.
والمشكلة الفعلية هنا تبدو أبعد من حجم فريق داخل طائفته، فهي تصل في جوهر الموضوع الى مسألة امتلاك «التيار الوطني الحر» للثلث المعطّل لوحده، أي حصة الـ 11 وزيراً وهنا جوهر المشكلة والنزاع.
باسيل مصمِّم على عدم التنازل عن حصّة الـ 11 وزيراً والقوى المواجهة له ترفض منحَه مفتاحَ مجلس الوزراء. قد يكون باسيل يعتبر أنّ الظروف ملائمة للإمساك بحصّة «الثلث المعطل» في ظلّ العهد الحالي، فيما القوى المناهضة له لا تريد إعطاءَه هذه الورقة القوية لوحده.
وبغضّ النظر عن «النصيحة» السعودية بحماية مطالب جعجع وجنبلاط، إلّا أنّ الحريري يرى نفسَه أوّلَ المتضرّرين كرئيس لحكومة من أن يمتلك حزب واحد ورقة «الثلث المعطل» وما يجعله سيد مجلس الوزراء وحاكمه الفعلي.
وقد يكون من الخطأ إثارة رئيس الجمهورية منذ الآن موضوع التواصل الرسمي مع سوريا، ذلك أنّ الحريري وجد نفسَه ملزَماً بالاقتراب، لا بل الالتصاق أكثر بجنبلاط وجعجع، ذلك أنه مع طرح الموضوع غداً في مجلس الوزراء يصبح الحريري في حاجة الى غطاء ومساندة له داخل الحكومة ما يلزمه بالتقارب اكثر مع «القوات» و»الحزب التقدمي الاشتراكي».
لذلك في الملفات الداخلية ستبدو الحكومة تميل في توازناتها لمصلحة «التيار الوطني الحر» في حال إمساكه بالثلث المعطل، وامام الحكومة المقبلة ملفات عمل كثيرة منها ما يتعلّق بالمشاريع المطروحة والواقع الاقتصادي والتلزيمات وملفات مؤتمر «سيدر» وغيرها كثير.
لكنّ الأهم، هو الدافع المخفي والذي يتجنّب الجميع مقاربته في العلن والمتعلّق بالاستحقاق الرئاسي المقبل، والصراع القاسي الدائر حوله ولو بصمت. فعمرُ الحكومة من المفترَض مبدئياً أن يكون بعمر ولاية المجلس النيابي وبسبب تقارب استحقاقَي الانتخابات النيابية المقبلة مع الاستحقاق الرئاسي، هنالك مَن بدأ يهمس بضرورة التمديد للمجلس النيابي الحالي لسنة إضافية بحيث يتمكّن من انتخاب الرئيس القادم، ما يعني انّ هذه الحكومة ستشرف على الانتخابات الرئاسية، وبالتالي فإنّ الإمساك بمفاصل الحكومة شيء والوحود داخل تركيبتها كفريق كبير ولكن من دون اوراق قوة، شيء آخر. هذا عدا المفاجآت غير المحسوبة التي قد تظهر خلال السنوات الأربع المقبلة بدءاً من الملفات السياسية في ظلّ منطقة تشهد تطوّرات هائلة تطاول لبنان بنحو او بآخر.
أضف الى ذلك أنّ «حزب الله» الذي أمّن للعماد ميشال عون عدم اكتمال النصاب النيابي طوال سنتين ونصف سنة ما حتّم على الجميع القبول به رئيساً للجمهورية، حسم قراره بعدم تكرار موقفه هذا، ما يعني أنّ مجرد دعوة رئيس المجلس النيابي الى جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية سيؤدّي الى انعقاد الجلسة وانتخاب رئيس جديد، ولو في الدورة الثانية. والبعض يحتسب ايضاً أنّ حرمان «التيار الوطني الحر» من «الثلث المعطل» قد يفتح سبل التشقق أمام التكتل حيث ستلعب إغراءات الاستحقاق الرئاسي امام بعض الطامحين من اعضائه.
وفي اختصار فإنّ النزاع يتمحور فعلياً وبنحو حاد حول امتلاك «الثلث المعطل»، فيما الأعذار الأُخرى لها علاقة بالتسويق الإعلامي لا السبب الفعلي.
ولأنّ عقدة «الثلث المعطل» تطاول ملفات كثيرة تصل الى ملف الرئاسة المقبلة، فإنّ النزاع يبدو قاسياً مع تمسّك كل فريق بعدم التراجع، ولو خطوة واحدة، الى الوراء لأنّ لذلك حسابات كثيرة تطاول المستقبل.
وانطلاقاً ممّا سبق يراهن كل فريق على عامل الوقت والشروع في لعبة عضّ الأصابع وانتظار مَن سيصرخ أولاً.
الفريق المعارض لحيازة «التيار الوطني الحر» حصة الثلث المعطل يلعب لعبة عون خلال ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان، وهو يعتبر بالتالي أنّ عامل الوقت هو ضدّ مصلحة قصر بعبدا ويهدّد عهده، ما سيدفعه الى الصراخ أولاً. فيما ينقل البعض عن باسيل أنه مستعدّ للانتظار الى ما لا نهاية وأن لا تراجع عن حصة الـ 11 وزيراً. وقد يكون هنا الرهان على صراخ الحريري أوّلاً.
لكنّ ثمّة بوادر مقلقة بدأت تلوح في الأفق وتتعلّق باشتباكات سياسية طابعها مذهبي، واحدة مع الدروز وهي بدأت تتبلور اكثر فأكثر، وثانية مع السنّة وعلى اساس الحقوق السياسية وصلاحيات رئاسة الحكومة.