المكان: مدرسة الشويفات، الزمان: قبل الحرب الأهلية، وأنا مدرّسة اللغة والأدب الإنكليزي. دخلت صفاً خاصاً لصغار من قطر. فوقف صبي في التاسعة تقريباً، مستدير الوجه كأنه طفل كبير وقال: لا أريد أن تعلمني حرمة. ما اسمك؟ سألت، محمد. يا محمد عليك الطلب من المدير أن يغيّر المعلمة، وبدأت درساً لم يشارك فيه.
وظل يأتي الى الصف ولا يشارك ولا يتجاوب، الى أن غنّيت لهم ذات يوم أغنية للصغار بالإنكليزية فوقف وقال: ما أحلى صوتكِ مس، لمَ لا تغنين في التلفزيون فيصير إسمك وحش الشاشة، مس أبو فاضل؟ وذاب الجليد بيننا وأخبرني انه لا يحب المدرسة بل يفضل الصيد في براري بلاده، وبدا مشتاقاً، فوددت لو أضمه، الا انه ما كان يريد حرمة تعلمّه!
وذات مرة في شهر رمضان دخلت صفاً خاصاً آخر لتلاميذ كبار نوعاً، وكان الزمان ربيعاً، والشمس دافئة والأزهار والطيور والفراشات في احتفالات دائمة. وكان فستاني قصيراً، فوق الركبتين. ولما دخلت الصف بدا سامي غاضباً، ينظر ناحيتي ثم يدير وجهه. ما بكَ سامي؟ مس، لقد خربتِ عليّ صيامي قال. ثوبكِ يظهر ركبتيكِ، وأنا صائم. وفهمت، ولم أخبره رأيي في كل ممارساتنا الدينية على تنوعها الكثير، وتوقفت عن ارتداء الفساتين القصيرة ليرتاح سامي، الآتي من ليبيا، الصبي المهذب، الذكي والمجتهد، والمؤمن التقليدي.
أما محمد المتوكل الآتي من اليمن فجمعتنا هدية لطيفة أتى بها لمّا اشتريت سيارتي الميني البيضاء: لعبة، بيسة صغيرة بيضاء، جلست وراء مرآة الميني حتى يوم فجرّها من فجرّها أثناء حربنا الأهلية المجيدة، ألف سلام على أبطالها، زعماء اليوم، فطارت الميني وطارت البيسة والمرآة وظلت الذكريات.
ذاك النهار عرفت لماذا أطلق على الشويفات صفة صحراء. الحر شديد بعد الظهر، ودخلنا صف الأدب الإنكليزي لتلامذة اﻠ G.C.E، والدرس عن رواية ل.د.ه. لورانس “Sons And Lovers” حكاية حب غريبة بين أم وابنها الواقع تحت تأثيرها ولا يستطيع الإفلات. تلاميذي ستة بينهم محمد المتوكل. محمد، اذهب الى الكافيتيريا واشتر لنا “سفن آب”، وأعطيته مصاري. لا تدع أحداً يراك فهذا ممنوع. نعم مس. ولمّا عاد كان يرتدي “أنوراكاً” سميكاً لأيام الثلج، وكاد يفطس، وتحته خبأ علب المرطبات. وشربنا وبوردنا وأكملنا الدرس.
صباحاً أرسل المدير يطلبني، وتوجهت فوراً الى مكتبه، غود مورنينغ، سير، قلت. هل استمتعتم بشرب المرطبات أمس مس أبو فاضل؟ أجل، فقد كان الحر شديداً، بوردنا وأكملنا الدرس. وماذا لو فعل كل الأساتذة ما فعلته؟ كيف يكون المشهد؟ وكان صمت، معك حق أستاذ، واعتذرت وقبل اعتذاري، وان كنا نعلم معاً ان أحداً غيري ما كان ليجرؤ.
تلامذة أحببتهم محمد القطري وسامي الليبي ومحمد اليمني وغيرهم وغيرهم، جمعنا حب وودّ قبل حروبنا الحمقاء، قبل أن يخرب زعماؤنا بلداننا.