Site icon IMLebanon

هذه بيروت… فلنحترمها جميعاً

 

ونحن في وسط الإنتخابات البلدية والإختيارية الدائرة على مجمل الأراضي اللبنانية، نتوقف عند النتائج التي انتهت إليها حتى الآن على مدى يومي أحد متتاليين أعادا إلى البلاد بعض أنفاس تاريخها الديمقراطي بعد أن كاد اللبنانيون أن ينسوا أنهم لبنانيون، وأنهم روّاد الحرّيات في هذا الشرق، وطليعة أهله الذين كان لهم حظ السبق الرابح إلى موقع رائد في عالم الديمقراطية الحقيقية على ما شابها ويشوبها من عيوب وثغرات.

كثير من التصنيفات يمكن الإنطلاق منها نظرا لغزارة المعاني والخلفيات التي زخِرَتْ بها هذه المناسبة، وقد فضّلنا أن نحصُر اهتمامنا بالتصنيف المنطلق من النِّسَب الإنتخابية التي سادت في المناطق التي جرت فيها الإنتخابات حتى الآن، وهي في عمومياتها ترتبط بتصنيفين متناقضين ومتباعدين في أرقامهما ومدلولاتهما.

في نهاية الأسبوع الفائت، جرت المرحلة الثانية من هذه الانتخابات، فاتّصفت بوقائع ومستجدّات وحقائق مميزة، لعل أبرزها ذلك الإقبال الواسع على الإقتراع وسط حماس شديد ومنافسةٍ أشدّ، ما بين القوى المشارِكة، وقد تجاوزت نسبة المقترعين فيها «الخمسين بالمائة» في معظم المواقع، وفي كثير منها، وصل التجاوز إلى ما يناهز الستين بالمائة وتعداها في بعض الأحيان، وبصرف النظر عن أي تقييم لهذه الظاهرة الجيّدة والتي أعادتنا إلى كثير من معالم الحياة السياسية الطبيعية، فإننا ننتقل منها إلى يوم الأحد الأسبق، الذي شهد أحداث الإنتخابات البلدية في كل من العاصمة بيروت ومنطقة البقاع، فكانت مفاجأتان لا بد من ملاحظتهما والإشارة إليهما، الأولى، متعلقة بانتخابات البقاع حيث خالفت نتائجها توقعاتٍ كثيرةٍ أهمّها انتخابات مدينتي بعلبك وزحلة اللتين انقلبت فيهما معادلات كثيرة كادت أن تنقل الغلبة والتفوق الواضح من ضفّةٍ إلى ضفّة، فإذا بتحالف حزب الله مع حركة أمل ولواحقهما، يكاد أن تتعادل نسبته مع نسبة لائحة أهالي بعلبك المنافسة، وذلك لأول مرّة منذ سنوات عديدة كانت الغلبة الانتخابية فيها مائلة بوضوح إلى صالح لائحة تحالفية ما بين حزب الله وحركة أمل.

وكذلك الأمر في زحلة، حيث تفوقت اللائحتان الخاسرتان بنسبتهما المشتركة «في حال توحدهما» على لائحة الأحزاب ولواحقها وتوافقاتها مع فئات عديدة بعضها مستجد في انتمائه إلى عاصمة البقاع.

أما في بيروت، فالأمر اختلف تماما عن النسب التي سادت في جبل لبنان إختلافا واسعا لافتا للنظر، وكان مدعاة جدّية إلى التحديق العميق في نتائجه. أن تكون نسبةٌ الإقتراع في العاصمة ما تقرب أو تزيد قليلا عن العشرين بالمائة في المناطق الإسلامية، وأن تكون خمسة في المائة أو تزيد قليلا في المناطق المسيحية، فهما أمران يصعب تصورهما وهضمهما والقبول بنتائجهما. هذه بيروت. هذه عاصمة لبنان. هذه مدينة الإشعاع الحضاري والوعي الفكري والنشاط الثقافي الإقتصادي في هذه المنطقة من العالم العربي، هذه مدينة الصحافة والإعلام المرئي والمسموع ومدينة تمركزت في أنحائها وزواياها وشوارعها وزواريبها، وسائل الإتصال الإجتماعي التي أثبتت عن مدى محترم من الإنتشار والفعالية. هذه بيروت، ونسبة الإقتراع فيها قد تراوحت ما بين خمسة بالمائة وصولا إلى عشرين أو خمسة وعشرين بالمائة وفقا لخريطة وطريقة الإحتساب. هذه نتائج تكاد أن تكون صادرة عن قرية نائية في منطقة من لبنان إنقطعت صلاتها بأماكن الفعل والفاعلية في هذا البلد الممتلئ بالحياة والتأهب في كل دروبها الحافلة بشتى التطورات الفكرية والثقافية والسياسية والإجتماعية، ولئن وجدنا لها عذرا قد يكون كامنا في الزوايا والخبايا والدهاليز، فهو يبقى ظاهرة غريبة وعجيبة، قد تتلاءم مع أوصاف أية قرية أو أية مدينة، ولكنها إطلاقا لا تتلاءم، وكائنا ما كانت الأسباب والأعذار، مع صفاتها وطبيعة أهلها وما تعودته من غوص عميق في أرجاء وأعماق الحياة العامة، خاصة في هذه الظروف التي تستهدفها بضغوطات مفتعلة وضاغطة على أعناق اللبنانيين، وفي طليعتهم المعانية. أبناؤها الذين طال اتساخ معالم مدينتهم الحضارية الوضاءة، بأكداس النفايات، وتحولت أجواؤها إلى بيئة تغمرها أشد أنواع الأخطار الصحية التي كلّما مرت جملة من الأيام، كلما ازدادت مخاطرها هولا واتساعا.

بيروت هذه… تقاعست عن الانتخاب، كثيرة هي الأسباب، وكثيرة هي المبررات التي يتذرع بها أولئك الذين تقاعسوا، ومع امتناعنا عن تحميل مسؤولية هذا التقاعس الذي قد يكون كسلا وقد يكون موقفا، لكن… كائنا ما كانت المبررات والأعذار فإنها لا يمكن أن ترفع مسؤولية المواطن عن سلامة أوضاع وطنه ولا أن ترفع مسؤولية إبن مدينة عن أوضاع مدينته، خاصة اذا كانت غارقة في مشاكلها وتردياتها.

 وفي الوقت نفسه، فإن هذه الأوضاع السيئة نفسها، ولا يمكن أن نرفعها عن كاهل المسؤولين، ولا أن نتغافل جميعا عن إعطائها حقّها في الإهتمام والتدارس، فما هو حاصل كائنا ما كانت مبرراته عند المواطنين وأسبابه عند المسؤولين، هو أمر غير جائز، ويحتاج إلى كثير من التمعن والغوص والبحث عن حقيقة منابعه التي دفعت الناس إلى مثل هذا التراجع الملحوظ عن القيام بواجباتهم والتقيد بالقواعد الطبيعية التي توجب عليهم أن يهتموا على الأقل، بشؤونهم الحياتية التي يتوجب أن تؤمنها لهم هيئةٌ بلدية ومجلسٌ بلدي منتخب، خاصة وأن كل القواعد والأنظمة والقوانين المعتمدة قد شُرّعت لتمكينهم من إداء الواجب الإنتخابي في تزامن كامل مع وجوب الإستحصال على حقوقهم كمواطنين وكأبناء مدينة عريقة ترعاها جملة من الأسس والمباديء الفكرية والثقافية والقانونية المتطورة.

واجب على المواطن أن يقوم بواجبه الإنتخابي، وواجب على المسؤول، كائنا ما كان موقعه وحجم مسؤوليته أن يجري تقييما جدّيا لكل ما حصل ولكل ما يمكن أن يحصل لو بقيت الأمور على حالها. إنها دعوة مخلصة لكل أبناء هذه العاصمة وللقيّمين عليها، إلى إمعان النظر والتدارس لكثير من الأسس التي تدار بها الأوضاع، حرصا منا ومنهم على أوضاع البلد وعاصمته، وإننا لعلى ثقة بأن القيادة وقد عادت إلى موقعها الطبيعي ومركزها الثابت في هذا البلد، قادرة على ترتيب الأوضاع وتكثيف الثقة وإعادة الإنطلاقة الشعبية إلى وهجها وعطائها الشامل. هذه بيروت… فلنحترمها جميعا.