Site icon IMLebanon

هيدا جوّنا

طلبت مني صحيفة أجنبية المشاركة في ريبورتاج يضمّ جمعاً من المثقفين من مختلف أنحاء العالم، مفاده الإجابة عن السؤال الآتي: كيف تتخيّلين بلادك بعد ثلاثين عاماً من الآن؟

ركّزتُ وتخيّلتُ، فرأيتُ الكابوس الآتي: بلادي، بعد ثلاثين عاما من الآن، سيكون على رأسها الزعماء أنفسهم، والطقم السياسي نفسه. بعد ثلاثين عاماً، لن نكون قد نجحنا في ارساء مجتمع مدني حقيقي، متحرر من نفوذ رجال الدين؛ بعد ثلاثين عاماً، سنكون ما زلنا نتزوج ونطلّق وننجب وندفن ونرث بناءً على انتماءاتنا الدينية؛ بعد ثلاثين عاماً، سيكون زعماؤنا السياسيون لا يزالون يتحفوننا كل يوم بالترّهات نفسها، على الشاشات وفي الصحف والبيانات، لكننا نمعن في تصديقهم، والتصويت لهم؛ بعد ثلاثين عاماً، سنكون لا نزال نربط مفهوم الشرف بعود الكبريت الموجود بين فخذي امرأة؛ بعد ثلاثين عاماً، سنكون مثل اليوم غارقين في قرف الانقسام والطائفية والفساد والحقد والانانية والذكورية واللاإكتراث والتهويل والمزايدات. وهلم.

قلتُ إني تخيّلتُ فرأيتُ ما سبق، لكني خجلتُ أن أشارك به القرّاء الأجانب الذين سيطلعون على الريبورتاج المذكور. عيب. ما لازم نقول عن زيتاتنا عكرين. بدلاً من ذلك، بذلتُ مجهوداً استثنائياً وكتبتُ نصّاً يطفح بالتفاؤل الكاذب. لبنان يا قطعة سما. هيدا جوّنا هيدا نحن.

لكني، في اليوم نفسه، قدتُ سيارتي لأذهب الى العمل، فوقعت السيارة في فخّ حفرة كبيرة لم تكن موجودة في الأمس، ثم في حفرة ثانية، فثالثة. بعد دقائق، حرف انتباهي عن الحُفَر تحويلٌ موقّت (للموقّت في بلادي صفة الديمومة) بسبب تنفيذ أشغالٍ لبناء جسرٍ من شأنه تسهيل حركة المرور والتخفيف من عجقة السير. أدرتُ الراديو لأنسى الورشة والجسر والعجقة، فطالعتني أغنية لمطرب “خنشور” يهينني. ثمّ انقطعت بي الكهرباء وأنا في المصعد. دخلتُ المنزل منهكة، أدرتُ التلفزيون كي “أغيّر جوّ” وأرتاح قليلاً من عناء النهار، فصفع عينيّ ومسامعي برنامجٌ حواريّ يتلاكم فيه أحد أنصار “عذراء قريش”، ممن هم معدومو الحسّ النقدي والقدرة على المساءلة، مع أحد أنصار ماكيافيل، ممن هم معدومو الضمير والذمّة. أفتح جهاز الكومبيوتر فأرى على مواقع التواصل الاجتماعي صور القتل والدمار في سوريا، وصور التشريد والظلم في فلسطين، وصور التفجيرات والبؤس في العراق، فلا أجد أمامي سوى أن أطبّ على وجهي وأنام شاكرةً القدر لأني لم أُقتَل ولم أشوَّه ولم أُشرَّد بعد.

كيف أتخيّل بلادي بعد ثلاثين عاماً من الآن؟

خلّينا ساكتين.