Site icon IMLebanon

«هكذا يُفكّر» أبو مصطفى

 

 

في لبنان ذاكرتان؛ الأولى ذاكرة الـ 43 والثانية ذاكرة «الطائف». الذاكرة الأولى يوجد لها حنين داخل الوسط الماروني اللبناني، والثانية يوجد لها مطالبون بتجسيد مفاعيلها في أسلوب الحكم داخل الوسط الإسلامي.

الرئيس نبيه بري، وكذلك النائب وليد جنبلاط، مسكونان بمفعول رجعي ساخط على لبنان الـ43 لأنه يذكّرهما بعهد المارونية السياسية وتهميشِ الشيعة سياسياً، وأيضاً باصطدام طموحات كمال جنبلاط بعقبة أنّه ليس مارونياً.

إلّا أنّ كلّاً مِن بري وجنبلاط تركت لهما الجمهورية الأولى أمثولة يلتزمان بها اسمُها «الميثاقيّة» الموجودة في جينات صيغة 1943 التي منها ولِد لبنان ومن دونِها يموت.

وبهذا المعنى فإنّ مدخلَ فهم تفكيرهما السياسي وأيضاً سلوكهما السياسي له مفتاح واحد، وهو أنّ «إتفاق الطائف» أنهى دستورَ الـ 43 ووزّع صلاحيات الحكم فيه على الطوائف، ولكن بقيَ من الـ43 ميثاقيتُه التي يَجدر الحفاظ عليها، لأنّها هي «روح بلا جسَد» كما كان يصِفها المفكّر الراحل منَح الصلح.

حينما يطالب جنبلاط بلائحة تفاهميّة تضمّه كزعيم درزي مع كلّ الأطراف المسيحية الأخرى في الشوف وعاليه، فهو بذلك، من وجهة نظره، يدافع عن حصّة الدروز في ميثاقية الـ 43، ويطالب شركاءَه المسيحيين في الجبل بالحفاظ على المِلح الدرزي داخلَ خبز التعايش المسيحي – الدرزي في الشوف.

ومطالبة بري بوزارة المال وإصراره على توقيع الوزير الشيعي إلى جانب توقيعَي الرئيسين الأوّل الماروني والثالث السنّي، هو ردّة فِعل سياسية ونفسية على غياب مشاركة الشيعة في قرارات السلطة الإجرائية، قبل «إتفاق الطائف».

لم يتخلَّ بري عن تسمية وزير شيعي لوزارة المال، إلّا تحت ضغطِ الـ«سين ـ سين»، وحينها فعَل ذلك مؤقّتاً، لأنّ دمشق أرادت مراعاة جهدِ الحريري الأب الذي طلبَ صلاحيات استثنائية لإعادةِ إعمار ما دمّرته الحرب، فـ=«أعار» بري وزارةَ المال استثنائياً لوزير الشؤون المالية.

القريبون من عين التينة يعرفون أنّ لدى بري خطاً أحمر، مفادُه عدم السماح للبلد بالعودة إلى «جمهورية المارونية السياسية»، سواء كان ذلك شكلاً أو مضموناً.

«الرئيس القوي» مصطلح لا يحبّه بري، ولا حتى جنبلاط، ومعهما طيف واسع من المسلمين. هؤلاء يتنسّمون فيه لكنةً سياسية تعود لفترة حكمِ المارونية السياسية، حيث حينها كان رئيس الجمهورية هو السيّد المطلق، وكان رئيس الحكومة «يبَكّل زر الجاكيت» أمامه، كما يقول تقي الدين الصلح، وكان رئيس المجلس النيابي تفصيلاً في معادلة قرار المشاركة في حكم البلد.

خلال فترة بدايات عهده روّج الرئيس إميل لحّود لنظرية برتوكولية تفيد أنّه يجب إلغاء مصطلح «الرؤساء الثلاثة»، وبدلاً منه يجب إيراد إسم رئيس الجمهورية منفصلاً، ومن ثمّ القول رئيسَي المجلس النيابي والحكومة. مفاد هذه الملاحظة البرتوكولية ترى أنّه يجب الحفاظ على مكانة رئيس الجمهورية «رئيساً متقدّماً» بين ثلاثة رؤساء متساوين.

وأيضاً الرئيس ميشال سليمان حينما سألته شخصية مصرية رفيعة في بدايات عهده: ماذا يريد فخامتكم من القاهرة لدعم عهدِكم؟ أجابه: «أريد استعادةَ شيء من الصلاحيات لرئيس الجمهورية». وأرتسَمت على وجهِ الشخصية المصريّة أماراتُ حيرةٍ، توحي أنّ ما يطلبه سليمان مستحيل.

كلّ قصّة بري مع عهد عون، هي تحفُّظه عن تنَسُّمِه رائحةَ المارونية السياسية فيه. لا يَغضَب بري من واقع أنّ رئيس الجمهورية يريد استعمالَ صلاحياته في «الطائف» حتى آخِر حرف، بل يُغضبه رؤية بعبدا أو مَن يحيط بالرئيس، وهو يتصرّف سياسياً بما يوحي أنّه يريد للبلد أن يتفاعل على مستوى ممارسة الحكم، وكأنه في زمنِ الجمهورية الأولى وليس جمهورية «الطائف» الجديدة، وزمن الدستور الذي يقول «مجلس الوزراء يَحكم مجتمعاً». ومن هنا أيضاً يطلّ بري ليختلفَ مع رئيس الحكومة سعد الحريري.

ففي جمهورية 43 كانت صلاحيات رئيس الجمهورية تمكّنه من حكمِ البلد وحدَه، فكان بجَرّةِ قلمٍ واحدة يُقيل رئيسَ الحكومة ومجلسَ النواب. أمّا في «جمهورية الطائف»، فلا بري يُمكنه وحده حكمُ البلد ولا عون ولا الحريري، وعليه، مطلوب التضافر لمنعِ الاستئثار، سواء عبر الأحادية أو الثنائية أو الترويكا.

لكنّ بري يحتاج إلى الرئيس الثالث السنّي لكي يجسّد معه في ممارسة الحكم فكرةَ تذكيرِ الرئيس الماروني كلّما احتاج الأمر بأنه يعيش في «جمهورية الطائف».

غير أنّ الحريري – من وجهة نظر عين التينة ومعسكر الطائف – يتساهل لألفِ سببٍ في فِعل ذلك، ويؤخَذ عليه أنه لا يزال بالمعنى المجازي للتشبيه، «يبكّل زرّ الجاكيت» أمام رئيس الجمهورية.

يعوّض بري غيابَ مساندةِ الحريري له في هذا المجال، بالنائب وليد جنبلاط الذي يشارك بري في النظر إلى «الطائف» من زاوية أيامِ الحرمان السياسي للطوائف الأخرى في دستور الجمهورية الأولى.

مِن الصعب إقناع برّي بالتخلّي عن حساسيته تجاه تجربةِ الشيعة مع جمهورية 43، أو إقناعه بعدمِ النظر إلى «الطائف» بصفته «ثمرةً دستورية جديدة لحركة نضالٍ طويلة» يسمّيها البعض الحرب الأهلية، بينما يسمّي بري وجنبلاط اللذان شاركا فيها، جانباً منها، «حرب التحرّر» من المارونية السياسية.

لم يشارك «حزب الله» في الحرب الأهلية أو في «نضال» الدروز والشيعة والسنّة لتغيير الدستور، وإدخال إصلاحات إليه تنقل الحكمَ إلى كلّ الطوائف في مجلس الوزراء.

والموقع الذي يطلّ منه الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله سياسياً ونفسياً على «الطائف»، هو بمثابة منطقةٍ تقع بين بداية تأسيسِ «حزب الله» الذي لم يكن حينها يَعترف بـ«الطائف» لأسباب أيديولوجية، وبين قيام «حزب الله» بنَقلته السياسية التي أدّت إلى اعترافه بـ«إتفاق الطائف» وانتظامِه سياسياً تحت سقف دستوره. ومن هذه المنطقة يرى الحزب في «إتفاق الطائف» دستوراً للبلد، ولكنّه لا يرى فيه ثمرةََ لنضالٍ خاص بـ»حزب الله».

وسؤال قواعد الحزب اليوم لقيادته هو عن إضافة نصٍّ جديد على دستور الطائف، يسيّل الحجمَ المستجد للشيعة. بينما سؤال الرئيس حسين الحسيني هو عن تطبيق «الطائف» كلّه، أمّا سؤال بري فهو عمّا إذا كانت ممارسة الحكم، خصوصاً على مستوى العلاقة بين الرؤساء الثلاثة، تتمّ بأسلوب يؤكّد أنّ «الطائف» ليس دستور الـ43.

لا أحد يدري ما إذا كان الرئيس ميشال عون القوي والمطالب باستعادة حقوق المسيحيين، يتفهّم أنّ بري، وكذلك جنبلاط، وأيضاً ضِمناً الحريري، ينظرون إلى «إتفاق الطائف» كوصفةٍ معاكسة لصلاحيات رئيس الجمهورية كما كانت عليه في الجمهورية الأولى.

عبثاً سترتاح العلاقة بين الرئاستين الأولى والثانية فيما لو ظلّ بري يشعر بأنّ عون يستوحي في ممارسته الحكمَ ذكرياتِ صلاحياتِ رؤساء الجمهورية الأولى. وخلاصة القول أنّه توجد في عين التينة اليوم فكرةٌ يَجدر لحظُها، وفحواها إطلاقُ «انتفاضةٍ دستورية بيضاء».