اقتلعت عبارات وليد جنبلاط، المقتضبة والعميقة الدلالة، المشهدية الإحتفالية من المختارة بكلّ تضاريسها القاسية ورمزيتها التاريخية، وأخذتها مع سواعد المناصرين الذين غصّت بهم الدار، وعيونهم الشاخصة المتحفزة، الخاشعة والقلقة، لتغرسها في لحظة ما قبل اغتيال المعلم كمال جنبلاط. عاد المشهد إلى أربعين سنة خلت، وكأنّا بكوفية دار المختارة تنتقل من الجدّ المعلم إلى الحفيد في تلك الحقبة الناصعة من تاريخ لبنان التي زخرت بكلّ قيّم الوطنية والعروبة والحداثة. استعار وليد جنبلاط مصالحة الجبل من آب 2001 وغرسها في اللحظة إياها لينأى بالكوفية الجديدة بعيداً عن أي وِزر سياسي أو ثأر، وليمضي وحده مع عباءته الملطخة بدم المعلم الشهيد ورفيقيه ودم الأبرياء الذين سقطوا غدراً.
«إدفنوا موتاكم وإنهضوا»، لازمة رددها وليد جنبلاط مع كلّ مفصلٍ من مفاصل كلمته، في زمن نبش القبور واستنهاض الأموات، وفي زمن توهم المحافظين الجدد باستعادة تاريخ مظلم، برغم حقائق العولمة الجديدة في الإجتماع والسياسة والإقتصاد والديموغرافيا.»إدفنوا موتاكم وانهضوا» برغم موجات التعصّب المذهبي التي أعادت الصراع على السلطة في العالم الإسلامي إلى حادثة «سقيفة بني ساعدة»، والتي تهدد بانهيار القيّم الإنسانية في أكثر من دولة أوروبية، مشدّداً على السلم والحوار والمصالحة مهما كبرت التضحيات ومنوّهاً بالدور الكبير للبطريرك صفير في مصالحة الجبل، التي هي التعبير الأقوى عن المقاومة المدنية للحرب وشكل ساطع للردّ على محاولة إجهاض الدولة المدنية.
ألقى وليد جنبلاط بكلّ أدبيات وأوزار تجربته السياسية جانباً، بالرغم مما حفلت به هذه التجربة من تحوّلات إقليمية ودولية. تجربة لا ينكر أحد أنّه كان لاعباً حاذقاً من لاعبيها، والحذاقة لا تعني ههنا القدرة على صناعة الحدث بل القدرة على الخروج بأقل الأضرار الممكنة واستعادة جزء من المبادرة. تماهى وليد جنبلاط مع تلك الحقبة وتماهت معه، براغماتيته سمحت له بالإنتقال من صناعة الموقف إلى التخلي عنه مع الإحتفاظ بمركز الثقل أو بعدم التصادم معه. لم يشأ وليد جنبلاط أن يلتفت إلى كلّ ما رافق تلك الحقبة من تعقيدات وتحالفات واحتلالات واغتيالات وصفقات وإلى كلّ قذارات الحكم وموبقات السلطة. حرّر وليد جنبلاط حامل الأمانة من كلّ موروثات تلك الحقبة وأعاد الزعامة الوليدة إلى خط الإنطلاق، إلى إرث الجد، وفقط إرث الجد كمال جنبلاط الذي أجمع اللبنانيون أكثر من مرة على اعتباره إرثاً وطنياً جامعاً وإرثاً عربياً وعالمياً، تاركاً للأجيال القادمة توفير الظروف الموضوعية لتقييم تجربته وتداعياتها السلبية والايجابية.
أعاد وليد جنبلاط الزعامة إلى منطلقاتها الأساسية، ببعديها السياسي والإنساني وكأنّه يصوّب مساراً أعجزته مصاعب وتراكمات المرحلة السابقة عن الإلتزام به. كان واضحاً توّق وليد جنبلاط إلى إعلان التصاق المختارة بالعروبة وبقضيتها الأم القضية الفلسطينية وبخيار التغيير الحداثي التقدمي الذي يفرضه الاحرار والثوار، خيار الإلتحام مع العمال والطلاب والنقابات والأحزاب. وكأنّه يريد أن يرى مجدداً هذا المشهد النضالي الملتحم بقضايا الناس ويريد أن يعيد إلى المختارة دوراً افتقدته. جاهر وليد جنبلاط بإعادة المختارة إلى الحاضنة العربية التي اعتبرها دائماً بوصلته الأساسية وألقى على تيمور مسؤولية العودة بالحزب التقدمي الإشتراكي إلى المشروع المرحلي للحركة الوطنية العابر للطوائف والمناطق والذي تشكّل في ظلّ نظام الحريات العامة في لبنان. إستعاد وليد جنبلاط طيف حركة نقابية عبّرت عن مصالح فئات أوجدتها بشكل طبيعي الدورة الإقتصادية الناشئة، وحركة طلابية تشكّلت وكانت الجامعة اللبنانية فلكها الرئيسي، فطرحت مطالب العمال والشباب ومارست دوراً فعالاً في التعبير عن روابط جديدة بين اللبنانيين واقتحمت سائر الإنتماءات الطبيعية في البلاد، والتحمت بالقضية الكبرى القضية الفلسطينية وجذبت إلى حلقتها المواطنين اللبنانيين، وكبرت معها مساحة الإهتمامات لديهم واتّسعت آفاقهم وانخرطوا في لعبة متشابكة وطنية وقومية.
غداً يمضي وليد جنبلاط حليف المقاومة الفلسطينية وأبرز المناضلين لإسقاط 17 أيار وصانع حركة 14 آذار الإستقلالية وأحد صانعي الحدث السياسي في لبنان. يمضي رجل الثورة والحوار، رجل الحداثة والأصالة حاملاً معه أسرار مرحلة زاخرة بالمتغيّرات، فيزداد شحوب المشهد السياسي ويطبق الصمت الكبير إلا من نقيق بعض أصحاب الأحلام.
مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات