تتعامل موسكو مع الساحة اللبنانية بعناية كبيرة. لا حاجة للشواهد والدلائل الحسيّة، تكفي مشاهد لقاءات مسؤولين من روسيا رفيعي المستوى مع رسميين لبنانيين ورؤساء أحزاب وقيادات، للتأكّد من أنّ «بلاد القيصر» صارت على مسافة أمتار من «بلاد الأرز»، لا بل في قلبها.
الأكيد أنّ الحرب السورية، بكلّ تطوراتها العسكرية والسياسية، حوّلت روسيا لاعباً دولياً شريكاً في رسم مصير الشرق الأوسط المُلتهِب بعدما كانت لاعباً إقليمياً يغرق في مستنقع دويلات الاتحاد السوفياتي سابقاً، وخلفها الاتحاد الأوروبي المتخبّط في أزماته الداخلية.
ومن الطبيعي أن يقفز لبنان على الأجندة الروسية ليصير على جدول أعمال الكرملين، لارتباطه العضوي والجغرافي والتاريخي بسوريا. وما وجود أكثر من مليون نازح سوري على الأرض اللبنانية، إلّا أحد تجليّات هذا الارتباط.
أمّا الوجه الثاني لهذا الترابط فيتمثّل في الدور الذي يمكن للبنان أن يؤدّيه في ورشة إعادة إعمار سوريا، كمنصّة عبور ومقر للشركات العالمية التي ستستثمر في «منجم» الإعمار.
بهذا المعنى صارت موسكو مَعنيّة أكثر من أي وقت مضى بحراك الساحة اللبنانية، و»محرّكات» صانعيها. تُخصص وزارة خارجيتها مساحة لا بأس بها مقارنة باهتماماتها الدولية الواسعة، من أجندة لقاءات مسؤوليها، للاطّلاع عن كثب على الأوضاع اللبنانية وتفاصيلها المعقّدة.
يمكن لأيّ زائر يحلّ ضيفاً على الخارجية الروسية أن يُبهر بضخامة المقر وأعداد الموظفين الذين «يَنغلون» كالنحل بين مبانيه ومكاتبه، كذلك يمكن له أن يتنبّه سريعاً إلى عنصر الشباب الطاغي على الموظفين والعاملين في أحد أهم المقار في العالم، حيث تطبخ التسويات والمفاوضات والاتفاقات.
منذ أيام كان رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية ضيف موسكو اللبناني. قبله كان رئيس «الحزب الديموقراطي اللبناني» طلال ارسلان، وقبلهما النائب المنتخب تيمور جنبلاط. بعدهم، حلّ رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل ضيفاً لمناسبة احتفالات العيد الوطني الروسي.
وتفيد المعلومات أنّ الاسم المُدرج على لائحة الأيام القليلة المقبلة هو رئيس الحكومة السابق نجيب مقياتي. أمّا رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري فهو ضيف عزيز تربطه علاقات تاريخية تعود لأيام الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
هكذا، تثبت الأحداث أنّ موسكو تمنح حيّزاً واسعاً من اهتماماتها لمصلحة الملف اللبناني، لا تتعامل مع مقتضياته بمنطق الشراكة في القرار وفي التفاصيل الداخلية، أو بمنطق الانحياز لطرف على حساب آخر، وإنما من زاوية الحرص والمتابعة، إنطلاقاً من بوّابة مبادرتها الشهيرة لإعادة النازحين السوريين الى وطنهم.
ولكن، يبدو أنّ لزيارة فرنجية رمزية مُضافة، تنضمّ إلى دلالات زيارات مَن سبقوه ومَن سيزورون بعده العاصمة الروسية. فقد خَصّ وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف الضيف اللبناني بجلسة رسمية طويلة امتدّت الى ساعة من الزمن وأكثر، ونادراً ما يفعلها المضيف الروسي مع مسؤولين من غير ذي صفة رسمية.
لكنها حصلت مع القطب الزغرتاوي. بَدا المشهد وكأنّ وزير الخارجية الروسية، وفق المراقبين، حريص الى التعرّف شخصياً الى زعامة مارونية قد تتقدّم على سواها في لائحة الترشيحات الرئاسية الجدّية، فكان لا بدّ من تبادل الأفكار حول مستقبل المنطقة.
هكذا، حلّق الحديث بين الوفدين في جلستهما الرسمية فوق المنطقة وما ينتظرها من سيناريوهات في المرحلة المقبلة، حيث أصَرّ المضيف على الاستماع الى وجهة نظر ضيفه، ليصير الملف اللبناني أحد حجارة الشطرنج المطروحة على النقاش. فيما أهمية هذه الحجرة تكمن في مسائل محددة وفق النظرة الروسية، هي: الحفاظ على تعددية الخصوصية اللبنانية، إستمرار الاستقرار، العمل على إعادة النازحين، والاسراع في تأليف الحكومة.
أمّا التفاصيل، فعادة ما تُترَك لنائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف. الديبلوماسي المحنّك الذي يزين كلامه بميزان الذهب ويجيد العربية بطلاقة مُلفتة، قادر على مناقشة مجالسيه في أدق الحيثيات الداخلية. يمكن للزائر أن يلمس حرص موسكو على تسريع وتيرة عودة النازحين إلى سوريا، من خلال العمل مع النظام السوري على تسوية الأوضاع القانونية والسياسية لتحضير أرضية ملائمة لعودة النازحين. قد لا تكون إجراءات العودة سريعة، لكنّ المسؤولين الروس يحاولون في الوقت الراهن خلق بيئة حاضنة بالتنسيق مع الدولة السورية لاستيعاب أكبر عدد من العائدين.
أمّا الملفت فهو اهتمام القيادة الروسية بالوضع الاقتصادي اللبناني والسؤال عن مكامن العلل والهدر، من خلال تشجيع اللبنانيين على المعالجة بحيث يبدو القلق جدياً على استيضاحات المسؤولين الروس.
يجزم أكثر من زائر للعاصمة الروسية، أنّ مضيفيهم يفضّلون عدم الغوص في تفاصيل اليوميات اللبنانية وزواريبها. لكنهم يُجمعون على أنّ موسكو لم تنغمس في الرمال السورية لكي تخرج من المنطقة في القريب العاجل.