IMLebanon

هيدا جوّنا

اتصل بي ابني المقيم في عاصمة أوروبية منزعجاً. قال إنه كان يشاهد برنامجاً خاصاً بالميلاد على التلفزيون، فاسترعى انتباهه ريبورتاج حول الضواحي الفقيرة في لندن. بعد جولة للكاميرا على بيوت متهالكة، تفتقر الى الحد الأدنى من النظافة الضرورية ووسائل الراحة الحديثة، وتسرح الجرذان في غرفها، بين أقدام سكانها من راشدين وأطفال، بل تشاركهم طعامهم، شرع الصحافي يستطلع آراء الناس المقيمين فيها، بغية إيصال أصواتهم الى الحكومة. وإذ سلّم الميكروفون الى سيدة تنام مع طفليها في شقة بلا كهرباء وبلا مياه للصرف الصحي، صرخت المرأة بحسرة: “حياتنا هنا لا تطاق! لكأننا في بيروت!”.

بنبرة غاضبة يقول ابني الذي، على رغم قراره عدم العودة الى لبنان بسبب الأفق المغلق أمام شباب جيله، لا يتحمل تعميم صورة الدولة الفاشلة أو المارقة على وطنه: “كيف لا يعرف الناس أن الحياة في بيروت شبه عادية، رغم كل شيء؟ عندما سمعت كلام هذه السيدة وددت لو أدعوها للزيارة لترى بأم عينيها الرفاهة والبذخ اللذين يسودان فيها!”.

ليست هذه الرواية استثنائية، فغالباً ما أواجه التعميم الجاهل نفسه عندما أزور بلداً غربياً للمشاركة في مؤتمر أدبي أو تظاهرة ثقافية. ما إن أقول إني من لبنان حتى أقرأ التعجب في عيون البعض. حتى ليخيّل للمرء أنه يعيش في جهنم الحمراء، وأنه بطل، لا لشيء سوى لأنه لم يمت بعد جوعاً ولا عطشاً ولا قنصاً.

ليس جميع الغربيين على هذا القدر من الجهل بواقعنا “المعقد”. البعض يعرف أن الاموال التي تُستثمر في لبنان البلا رئيس جمهورية، أين منها تلك التي تُستثمر في موناكو. وأننا نحن اللبنانيين، وإن شهدنا قطع رأس جندي نهاراً، لا نرعوي، للأسف، عن ارتكاب الصغائر والموبقات، ولا نحجم عن ارتياد الملاهي الفاخرة ليلا. وأننا، وإن لم نزل بلا كهرباء ومياه “مثل الخلق”، لا نشتهي ماركة عالمية الا ونجدها في أسواقنا. وأننا، وإن كنا ندرك أن الطعام الذي نأكله فاسد، ندفع للفاليه باركينغ مبلغ عشرين ألف ليرة أحيانا لكي يركن سيارتنا أمام المطعم الذي سيسممنا. وهكذا.

لن أقول إن صورة لبنان في الخارج مشوّهة، بفعل تركيز وسائل الاعلام على عللنا، لكنها بالتأكيد تعميمية وناقصة. أفكر في ذلك بينما تكاد سيارة جاغوار بلوحة سياسية تدهس شحاذاً عجوزاً يقطع الطريق على جسر فؤاد شهاب، بين “البيروتَين”، أمام عيني، فأتدارك: “منيح يلي الغربيين ما بيعرفوا كل شي”.

أنْ تشاركنا الجرذان طعامنا، أشرف لنا من بعض زعمائنا ينهشوننا.