من الخطأ بمكان في اي محاولة منا مقاربة ولو أولية لقراءة نتائج الانتخابات البلدية التي صدرت حتى الآن ومجافاة الحقيقة الموضوعية وعدم اجراء تقويم صادق وصريح للثغرات والسلبيات التي رافقتها وتخللت عملية الاشتراك بها والانخراط فيها وصولاً لاستخلاص الدروس الواجب استيعابها والتعلم منها والا ندرك الواقع المادي المعاش الذي وصلنا اليه، وكأننا نصم آذاننا حيال ما تطالبنا به الجماهير.
ثمة عدة عوامل وظروف ومناخات ارخت بظلالها على الانتخابات البلدية التي جرت في موعدها الدستوري في ربيع عام 2016 الجاري فلا يمكن فصلها على الاطلاق عن عملية الاقتراع ومسارها والممارسات التي شهدتها:
ليس من باب التجني او محاولة البحث المغرض عن جهة سياسية ما لتحميلها تبعات ومسؤولية المناخ العام الذي يطبع بطابعه الحياة السياسية في لبنان، بالامكان القول ان تعطيل الاستحقاق الدستوري الرئاسي عن طريق تهريب النصاب الدستوري وبصورة مستمرة متمادية لجلسات البرلمان اي عملياً تعطيله وشله والحؤول دون لعبه دوره كهيئة ناخبة قد اثر كثيراً في المناخ السياسي العام. فقد مضى ما يزيد عن السنتين ونصف ولبنان بلا رئيس للبلاد. وقد بدا واضحاً خلال هذه الفترة الزمنية ان هناك نية جدية على ارض الواقع السياسي، وبصرف النظر عن التمسك اللفظي الظاهري بمرشح معين من قبل «حزب الله«، أن هذا الحزب ليس في صدد الافراج إذا صح التعبير، عن هذا الملف الشائك ليجد طريقة الى الحل. فالاستحقاق الدستوري الرئاسي بالنسبة له راح يتحول الى ملف ثانوي. ذلك ان تورطه في الحرب السورية المستمرة، وانغماسه في المأزق العراقي المعقد وتدخله في حرب اليمن ما عدا تشكيله خلايا مهمتها زعزعة الأمن في العديد من دول الخليج جعل من همومه اللبنانية مسائل غير ذات بال. والحق ان كل ذلك انعكس سلباً على الرأي العام اللبناني وأدخل الحياة السياسية في حال من الاكفهرار والقنوط واليأس. فأصبح اللبناني العادي يتقبل الواقع القائم المرير وكأنه امر واقع لا حيلة له في تغييره، كالرجل المريض المصاب بمرض مزمن يعيش كل يوم بيومه. انه الاكفهرار العام الشامل وتعبيراته الأكثر قرباً للصحة هو هذا العزوف الملحوظ عن المشاركة في الاقتراع وهذا التدني في نسبة المقترعين. بل اكثر من ذلك عندما نصل الى استنتاجات مريعة الا وهي ان سياسة حزب الله كانت تقودنا شيئاً فشيئاً لنغرق في هذا المستنقع الذي اسمه القنوط والياس والاحباط والاستسلام.
من ناحية أخرى كان للتمديد للمجلس النيابي الحالي دوره دون ريب في تعزيز هذا المناخ العام من الاكفهرار ومفاقمة عدم الثقة بالمؤسسات واي عملية تداول ديموقراطية للسلطات والرهان على الخروج سالمين من الأزمات. فتحت ضغط الخوف من تردي الوضع الأمني وتجنباً لحصول صدامات حادة واستفزازات قد تدفع البلاد نحو الاسوأ، كان التمديد لمجلس النواب وكأنه افضل الحلول السيئة لمعالجة هذا الاستحقاق الدستوري الهام والملح. وكأن المطلوب ان يفقد اللبنانيون ثقتهم بالمؤسسات الوطنية وبالأخص البرلمان وهو احد اهم اعمدة النظام الديموقراطي اللبناني وذلك بصرف النظر عن رأينا في قانون الانتخاب الذي تشوبه ثغرات ونواقص مما يطرح جدياً قانوناً جديداً للانتخابات. لقد راح الترويج من باب النقد اللاذع لمقولة ان النواب قد مددوا لأنفسهم بأنفسهم يلقى المزيد من الآذان الصاغية، بخاصة في ظل الوضع الأمني القلق وتصاعد الأزمات المعيشية والاعتداءات الارهابية. فالكثيرون من اللبنانيين راحوا يتساءلون بحق: ما دامت السلطات المعنية استطاعت انجاز استحقاق الانتخابات البلدية دون متاعب امنية تذكر، فلماذا والحالة هذه امتنعت عن انجاز الانتخابات النيابية في موعدها؟
ان الشعارات التي رافقت الحراك الشعبي عندما بلغت ازمة النفايات ذروتها وما رافقها من صدامات في الشوارع مع رجال الأمن عندما راحت توجه الاتهامات الحادة لجميع السياسيين دون استثناء واضعة اياهم في خانة الاتهام، كانت عملياً تمهد للمزيد من الاكفهرار والقنوط لدى الرأي العام وتدفع باتجاه العزوف عن المشاركة الفعلية في اي اقتراع مقبل واي استحقاق انتخابي مطروح. وقد لقي ذلك دون ريب ترحيباً ضمنياً في أوساط «حزب الله«، ذلك انه وبصرف النظر عن أحقية المطالب، كان يقود ابرة البوصلة بعيداً عن المشكلة الرئيسية الا وهي المشكلة الأمنية التي سببها حزب الله الذي يبسط نفوذه على مرافق الدولة اللبنانية. فعندما تتعطل المؤسات الوطنية وتعجز الحكومة عن القيام بدورها وتصبح البلاد بلا رئيس وببرلمان ممدد له وتزدهر الطروحات الطائفية والمشاريع المذهبية في ظل سياسة رعناء تتلخص بمعاداة العرب وكيل الاتهامات لهم دون توقف فأي إقبال على صناديق الاقتراع في الانتخابات البلدية نتوقع يا ترى؟
ان التسيب الأمني وسيطرة منطق الاستقواء بالسلاح والعيش المستمر في حال مريعة من القلق على الحاضر وتحويل لبنان الى دولة فاشلة في ظل ازمة اقتصادية ومعيشية خانقة وبروز فضائح مالية وأخلاقية لا تتوقف، وأن تقوم الدويلة بالحلول عملياً محل الدولة، فان اللبناني العادي لم تعد لديه اي حوافز فعلية للذهاب الى صناديق الاقتراع. لأن الاقتراع يعني التعبير عن ارادة المواطن ورأي الناس. فما دام الاقتراع غير قادر على التغيير، وأن نتائجه محكومة سلفاً بالتعطيل وبتكريس استمرار الأزمة فأي جدوى يا ترى من الاقتراع؟ ولولا المصالح اليومية المباشرة التي تتطلب المتابعة والملاحقة، وما له علاقات بخصوصية المدن والبلدات، وعائلاتها وتاريخها الخاص لكنا والحالة هذه حصدنا نسبة اقل في عدد الناخبين وتكريساً مفجعاً اكبر لهذه الحال من الاكفهرار.