من المتوقع أن يُحدث تشكيل الحكومة الجديدة، متى حصل، صدمة إيجابية على المستوى اللبناني العام، لكنّ العارفين بتعقيدات الازمة الاقتصادية- المالية ينصحون بعدم المبالغة في التوقعات والتفاؤل، لأنّ الخروج من نفق المأزق الحالي يتطلب معالجات عميقة وجذرية أبعد من حدود الولادة الحكومية المرتقبة التي قد تمنح لبنان فرصة لالتقاط الانفاس، إلّا أنها لن تكون كافية اذا لم تستثمر بالطريقة الصحيحة.
لا يخفي المطّلعون على حقائق الازمة الحالية قلقهم من الاحتمالات المستقبلية، خصوصاً أنّ الطبقة السياسية تبدو منفصلة كلياً عن الواقع المالي – الاقتصادي وتحدياته، التي من شأنها أن تهدد بتداعيات وخيمة على الامن الاجتماعي في لبنان.
وأكثر ما يخشاه هؤلاء هو ان يتمخّض جبل الانتظار عن حكومة متواضعة لا تتناسب وحجم المخاطر القائمة، ذلك أنّ المرحلة الحالية تتطلب قرارات فورية وسليمة ولا تتحمّل تحويل مجلس الوزراء حقلاً للتجارب. وبالتالي، فإنّ المطلوب التدقيق جيداً في السيرة الذاتية للوزراء التكنوقراط الذين سيتولون الحقائب الحيوية والخدماتية، بحيث يؤتى الى الحكومة بتقنيين من أصحاب التجربة والخبرة بعيداً من أصحاب النظريات والتنظير الذين قد تنطبق عليهم في الشكل صفة التكنوقراط، لكنهم في المضمون غير قادرين على الإنجاز العملي وتقديم القيمة المضافة الضرورية.
وتلفت شخصية سياسية – اقتصادية الى أنّ الأزمة الحقيقية لم تبدأ بعد، وأنّ «العوارض» التي ظهرت حتى الآن ليست سوى رأس جبل الجليد وعَيّنة من الآتي الأعظم ما لم يُتدارك الوضع اليوم قبل الغد، منبّهة الى أنّ عدم إحداث تحول جذري في سلوك الدولة ونمط مقاربتها للورطة الراهنة سيرتّب تداعيات متدحرجة خلال الاشهر المقبلة، ومن بينها تزايد حالات الافلاس والتعثّر المالي وتفاقم ظاهرة إقفال المؤسسات وما يرافقها من صرف للعمّال، الأمر الذي سيرفع أرقام البطالة الى معدلات قياسية غير مسبوقة.
وتعتبر تلك الشخصية أنّ النموذج الاقتصادي الذي كان معتمداً منذ 30 سنة انتهت صلاحيته، «وسياسة الطرابيش التي اعتمدوها لتأجيل الانهيار وصلت الى خواتيمها، الامر الذي أدى الى انكشاف الدولة على الصعيد المالي وإماطة اللثام عن كل الخدع والحيل التي استخدمت لإطالة أمد كذبة «الوضع الممسوك» التي روّجوا لها طويلاً»، مشددة على انّ هناك حاجة ملحة الآن الى تنويع الخيارات والخروج من النظام الريعي نحو الاقتصاد المنتج القادر على استقطاب العملة الصعبة الى الداخل بدل الافراط في تصديرها الى الخارج، كما كان يحصل منذ عقود.
وتكشف الشخصية المطلعة على خفايا «المناورات» النقدية التي نفذتها الدولة طيلة عقود للهروب الى الأمام، انّ الازمة الاقتصادية- المالية كانت مرشحة للانفجار الكبير عام 2011 نتيجة انخفاض سعر النفط ونشوب الحرب السورية التي أرخَت بظلالها الثقيلة والقاتمة على لبنان، سواء من خلال تدفّق النازحين أم عبر انسداد الشريان الحدودي الوحيد أمام الصادرات اللبنانية، «لكننا نجونا بأعجوبة حينها، وتأجّل الاستحقاق الى العام 2015 حيث مرة أخرى كادت الازمة المتراكمة تنفجر، الّا انّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة اشترى فسحة إضافية من الوقت، وبكلفة عالية».
وتضيف: بدل أن نستفيد من الفرصة الاخيرة التي لاحت أمامنا لنغيّر سلوكنا السياسي والاقتصادي ونتجنّب خطر الانهيار، استمر الامعان في اعتماد السياسات القديمة بكل ما تنطوي عليه من فساد وهدر وسوء ادارة وقلة مسؤولية، فكان أن وصلنا الى هنا.
وفي معرض مقاربتها للتحولات التي يجب ان تواكب الواقع المستجد، تشدد الشخصية نفسها على ضرورة تخفيض نسبة الاستيراد الى حدود الـ10 مليارات دولار فقط، بعدما كانت تلامس حتى الأمس القريب حدود الـ20 ملياراً، «وكذلك يجب على اللبنانيين ان يغيّروا سلوكياتهم التي لم تعد تتلاءم مع قواعد المرحلة الجديدة وضوابطها».
وتتساءل الشخصية المعروفة بخبرتها المصرفية عما إذا كان أمراً طبيعياً وجود هذا الكمّ الكبير من عاملات المنازل والعمال الاجانب في البلد والذين يحولون شهرياً مبالغ طائلة من الدولار الى الخارج، إضافة الى إفراط اللبنانيين في السياحة الخارجية التي تستنزف بدورها العملة الصعبة، حيث سُجّل، على سبيل المثال، خلال هذا العام بيع مئات آلاف تذاكر السفر الى تركيا.
وتعتبر تلك الشخصية انّ أسطورة القطاع المصرفي اللبناني قاربت على الانتهاء، ملاحِظة انّ المصارف تخوض الآن «معركة بقاء» اضطرّتها الى استعمال استراتيجية «التقنين النقدي» حتى تصمد أطول وقت ممكن في انتظار الفرج، «إذ انّ كل دولار يخرج من صناديقها في هذه الايام يذهب ولا يعود، الأمر الذي استوجَب منها اعتماد خطة طوارئ، محورها الـ«كابيتال كونترول» المقنّع».
ووفق الشخصية التي ناقشت هواجسها مع مراجع رسمية وحزبية، يقف لبنان أمام احتمالين الآن، فإمّا ان تُسيء الطبقة الحاكمة التقدير وتواجه الازمة بطريقة خاطئة وعندها سيكون الثمن غالياً وسنبقى نحو 10 سنوات في حالة من التخبّط وانعدام الوزن، وإمّا ان تُحسن التصرف وتتخذ القرارات والخيارات الصحيحة، وحينها سنحتاج الى نحو 4 سنوات لنخرج بشكل متدرّج من النفق.
وتشير هذه الشخصية «الخبيرة» الى انّ هناك مجموعة قواعد وتدابير صعبة يجب التقيّد بها لنعزّز فرص النجاة، ومن بينها:
– تجميد الودائع المصرفية لبضع سنوات، مع ترك هامش ضيق للسحوبات، وإلّا فإنّ البديل الاضطراري هو «HAIR CUT».
– قوننة الـ«كابيتال كونترول» حتى إشعار آخر، وإذا لم يحصل ذلك سيغدو القطاع المصرفي عرضة للدعاوى القضائية من قبل المودعين، الأمر الذي من شأنه ان يشكل تهديداً كبيراً له.
– مكافحة الفساد بجدية وحزم، والوقف الفوري للهدر والنزف المالي في القطاعات الحيوية كالكهرباء والمرفأ وغيرهما، لاستعادة صدقية الدولة المفقودة وسد الثقوب في خزينتها.
– نقل الاقتصاد من الجانب الريعي الى الطور الانتاجي وفق التصور التفصيلي الذي وضعته دراسة «ماكينزي».
– مطالبة المجتمع الدولي بضَخ ما بين 10 و15 مليار دولار في لبنان، ولا بأس في ان يتخذ هذا «المَصل المالي» شَكل وديعة في مصرف لبنان.
وتُنبّه الشخصية إيّاها الى أنّ كل شهر يمر من دون حسم الخيارات في الاتجاه الصحيح، يعني انّ كلفة المعالجة ستصبح أقسى وحظوظ نجاحها أضعف.
وعليه، هل يلتقط المسؤولون الخيط الرفيع الذي يمكن ان يقود الى الانقاذ أم انهم سيقطعونه مجدداً؟