لا يكترث اللبنانيون في هذه الحقبة الى أوضاع المالية العامة، لأن هموم رفع النفايات من الشوارع قبل الشتاء اكثر إلحاحاً. لكن ما يجري على المستوى المالي ينبغي أن يُقلق الجميع، وتطوّر الارقام والحقائق كفيلٌ بتوضيح الصورة القاتمة، من دون أي نوع من أنواع المبالغة.
يُفترض أن تكون وزارة المالية في هذه الحقبة قد أنجزت ملف تلزيم ادارة اصدار جديد لليوروبوند يكفي لسد حاجات الدولة للعام 2015، وربما يتم استبدال سندات تستحق في مطلع 2016. تأتي هذه العملية في سياق طبيعي وفقا للخطة القائمة دائما على دفع كل سند دين يستحق من خلال الاقتراض مجددا من الاسواق.
هذه السياسة الرائجة منذ سنوات طويلة، راكمت الدين العام ودفعته الى النمو حتى وصل في حزيران 2015 الى حوالي 70 مليار دولار. هذا الرقم لا يعكس في حد ذاته الخطر المحدق بالوضع المالي، بل ان مكامن الخطر تظهر بوضوح من خلال قراءة تطور هذا الرقم في السنوات الأخيرة، وما هو متوقع في السنوات الخمس أو العشر المقبلة.
في قراءة لنمو الدين العام، يُلاحظ ان حجم هذا الدين في 2005 وصل الى حوالي 40 مليار دولار. وهذا يعني ان الدين زاد في 10 سنوات حوالي 30 مليار دولار، أي بمعدل 3 مليارات دولار في السنة. وهذا يقود الى الاعتقاد ان الدين سوف يصل في السنوات العشر المقبلة الى حوالي 100 مليار دولار.
لكن الواقع اسوأ من ذلك بكثير، ذلك ان الارقام تبين ان الدين نما بين 2005 و2011، اي في خلال 7 سنوات حوالي 15 مليار دولار، في حين انه ارتفع حوالي 14 مليار دولار في ثلاث سنوات بين 2012 و2014، وهذا يعني ان معدل ارتفاع الدين انتقل من حوالي مليارين ونصف المليار في السنة الى حوالي 4.5 مليار دولار سنويا. ولم يتوقف الامر عند هذا الحد، بل ان العام 2015 سوف يقفل على ارتفاع في الدين يتجاوز الخمسة مليارات ( التقديرات تشير الى 5,5 مليار دولار).
هذه الحقائق الرقمية غير القابلة للنقاش تشير الى خريطة الطريق التي يسلكها مسار نمو الدين العام في السنوات العشر المقبلة. واذا احتسبنا معدل الزيادة السنوية في نمو الدين في السنوات العشر الماضية، وهو حوالي 120 في المئة، فهذا يعني ان نمو الدين في الـ2025 سيتجاوز الـ10 مليار دولار سنويا. كما ان الدين العام التراكمي يسمح بالاعتقاد ان الدين العام سيصل في العام 2025، حوالي 150 مليار دولار.
واذا سجل الاقتصاد نموا بمعدل 4% سنويا، فهذا سيرفع حجم الاقتصاد خلال عشر سنوات الى حوالي 65 مليار دولار. وهذا الرقم متفائل نسبيا على اعتبار ان نسبة النمو الحالية هي اقل من 2% سنويا، وسنحتاج في السنوات اللاحقة الى وضع اكثر استقرارا لكي ننعم بمعدل نمو 4%.
وفق هذا السيناريو شبه الواقعي، والذي يعتبر بمثابة محاكاة على الورق للوضع المالي، سيرتفع حجم الدين العام الى الناتج الوطني (GDP) من حوالي 140%، كما هو اليوم، الى حوالي 230 في المئة، ونكون بذلك قد أصبحنا في وضع مالي يصعب الخروج منه من دون أضرار فادحة.
هنا تنبغي الاشارة الى ان هذا السيناريو لا يشمل المفاجآت غير السارة، ومن ضمنها الاحتمالات التالية:
اولا – خفض تصنيف لبنان السيادي وهذا أمر وارد لئلا نقول أنه مُرجّح، وبالتالي فان كلفة خدمة الدين سوف ترتفع، واحتمالات ان يتجاوز نمو الدين الرقم المُقدّر (150 مليار دولار عام 2025) تصبح شبه مؤكدة.
ثانيا – احتمال تراجع حجم تحويلات اللبنانيين من الخارج والتي بلغت حوالي 10 مليار دولار سنويا، بسبب تراجع اسعار النفط والتي يُقدّر ان تستمر في السنوات المقبلة، وفق قراءات المحللين. بالاضافة الى الانفاق على المجهود الحربي في دول الخليج العربي. كل ذلك قد يقود الى تراجع مداخيل القوى اللبنانية العاملة في الخليج، ويؤدّي الى تراجع حجم التحويلات، وسيكون ذلك بمثابة مشكلة اضافية في الاقتصاد الوطني.
ثالثا – احتمال تراجع النمو الاقتصادي الى مستويات متدنية، او استمراره على ما هو عليه اليوم، اي حوالي 1.5% سنويا.
رابعا – احتمال زيادة ضغوطات تداعيات النزوح السوري الى البلد، مع التحسّب لأعداد اضافية من النازحين قد تصل الى البلد في حال تطوّر المعارك في سوريا وصولا الى دمشق.
هذه القراءة التي قد تبدو سوداوية، ينبغي ان تشكل في حد ذاتها جرس انذار لكي تضع الطبقة السياسية نقطة على السطر، وتبدأ في التفكير في سبل تغيير هذا المشهد المقبل والحتمي، الا اذا انقلبت السياسة رأساً على عقب، وبدأت مرحلة انقاذية لا علاقة لها بما سبق.