بعد كلّ المآسي التي أحاطت بنا خلال اليومين الماضيين، لا أعتقد أنه يمكنني أن أرتكب جزءاً ضئيلاً ممّا اقتُرف، ولا زلت أحتفظ بداخلي بأفضل المشاعر تجاه الناس، ولا أظنّ أنّ هذه الجريمة التي أفقدتني كلّ شيء ثمين في حياتي يمكن أن تدفعني للانتقام أو الانقضاض على الناس وعضِّهم.
أحسّ الكلب بوَهن من كثرة الحزن، فجلسَ على رِجليه الخلفيتين وعيناه مغرورقتان بالدموع، وأكملَ حديثه قائلاً: «نحن الكلاب، وبعكسكم أنتم البشر، لا نَعبد آلهةً ولا نتّبع ديناً في حياتنا، لكنّنا نعيش متمسّكين بمجموعة من المبادئ التي لا يمكن لأيّ حادثة مهما كانت مأسوية أن تحيدنا عنها».
منذ لحظة وقوع الجريمة بدأت مشاهدة الكثير من الوجوه الغريبة في الحيّ، لكنّني لم أتمكن من النباح أبداً، كما لو أنّني لم أعد أكترث، فلماذا أتكبّد هذا العناء إذا كان الناس يفسّرون تفانيَّ في حمايتهم وخوفي على أمنهم إزعاجاً. أنا أعرف أنّ القاتل لم يكن يفهم تصرّفاتي وردّات فعلي وتحرّكاتي، ولطالما رغبتُ في تعلّم لغة البشر حتى أقول له إنّ نباحي في منتصف الليل لم يكن سوى لتنبيهِ السكّان إلى وجود غرباء في الحيّ.
على كلّ حال، أنا لست سوى كلب إبن كلب، ولا أستطيع أن ألوم مطلِق النار على جهلِه أو قلّة درايته بلغة الكلاب وطباعهم، لكن لطالما تساءلتُ لماذا لا يتذمّر الناس ويفتعلون المشاكل على صوت القطط التي تتعارك كلّ ليلة تحت شبابيك غرف النوم، أو التي تنوح بشكل مرعب أثناء ممارستها الجنس؟ لماذا يا بني البشر تقدّسون صوتَ الديك الذي يصَحّيكم قبل أن ينكز الشمس؟ ولماذا لا تقتلون الحمام الزاجل الذي يملأ سماءَكم وأرضكم برازاً؟
أنا كلب تخَلّى عن حرّيته وأحلامه وطموحاته ليعيش في كنفِ عائلة محترمة حتى لا يقول الناس عنه كلب شارد ويسمّموا له النفايات ليموتَ رخيصاً، أنا تخلّيت عن كلّ ذلك ورضيتُ العيش بين الناس لخدمة قضيّة سامية وهي التفاني من أجل الوفاء والتضحية.
فنحن لا نحلم أن نكون كلابَ أعمال أو كتّاباً وأطبّاء أو جامعي ثروات، نحن لا نهتمّ سوى في تحقيق أنفسِنا ككلاب، فنولد ونعيش ونموت ككلاب، دون أن نتخلّى عن شيء من فلسفتنا، ولكنّني بدأت ألاحظ أنّ الناس في مشوارهم بين المهد والتابوت يتوهون كثيراً عن مبادئ الإنسانية ويصبحون وحوشاً.
هل يا ترى يغار الرجال من شهامتنا نحن الكلاب ومِن وفائنا وتفانينا في سبيل من نحب، هل هذا هو السبب الذي يدفع الكثير منهم إلى إلغائنا وتهميشنا؟ كلّ الاحتمالات واردة، لكن ما لا أستطيع أن أفسّره هو لماذا أطلَقَ النارَ على صاحبي وأهلِه وليس عليَّ أنا وجرائي؟
كم كنتُ أودّ القفزَ فوق ذلك السياج وأخذَ تلك الرصاصات في صدري وتوفيرَ المآسي على عائلة الجاني وعائلة المغدورين، إنّني لو متُّ بدلاً منهم لكان انقضى الأمر بمحضر وليس بجنّاز.
نعم أعترف، قد أكون تماديتُ أحياناً في تلطيش فتيات الحي وإغاظة الأولاد، وقد أكون استفزّيت الرجال والنساء مرّةً أو أكثر، لكن أن يتصرّف كلب على طبيعته لا يعني أبداً أن يخرج الإنسان عن طبيعته ويفعل كلّ هذه الأمور التي تخالف قوانين الطبيعة.
أنا صراحةً، أستغرب كيف نتمكّن نحن الكلاب من فهم لغاتكم المختلفة وننصاع لأوامركم بكلمة واحدة، وأنتم الذين تعتبرون أنفسَكم أذكياء وأعلى مرتبة، لا تستطيعون فهم نبحة واحدة من نباحنا.
على رغم أننا نعيش عيشة كلاب، إلّا أننا مقتنعون وراضون تماماً بحياتنا، ونحن مهما تغيَّر قائدنا ومعيلنا لا نغيّر أبداً مبادئنا، ونواصل التمثّل بها مهما كانت الظروف صعبة.
وأنا بكلّ صراحة أجد أنه من السهل أن تسكن كوخاً صغيراً تحت الدرج، ومن السهل أن تذهب إلى حيث تريد على أربعة أرجل، ومن السهل الأكل من النفايات والشرب من البرَك الموحلة، وبالتأكيد من الأسهل أحياناً أن تكون كلباً في هذا العالم على أن تكون إنساناً، لأنك تعرف أن لا أحد من بني جنسك يملك مسدّساً أو بندقية يقتلك بها عندما يتضايق منك…
نحن نباحُنا حرية، وغضبُكم أنتم سجن أبدي.