حصلَتْ خدعةٌ سياسية كبيرة بعد ليلة “لوغراي” في وسط بيروت انطلت على “فئتين”: شباب الحراك المدني والرأي العام. هذه الخدعة استندت وبنجاح فائق على إقناع واقتناع “الفئتين” أن ما حصل في الشارع الممتد عرضا بين مبنى “النهار” وبين الفندق هو عنف. عنفٌ يهدِّد النظام العام.
الشباب الحراكي انطلت عليه الخدعة بمجرّد أنه قبل الفكرة وانقسم بين مبرِّرٍ لها وبين معتذرٍ عنها أو متبرِّئٍ منها.
الرأي العام تحوّل معظمه إلى مُدين ومَدين لـ”العنف” بما فيه الشرائح المؤيِّدة للحراك.
الحقيقة أن هذا الحراك ومعه بيروت لم يشهدا أي عنف من ذلك النوع الذي يهدد الأمن العام أو يهدد الأملاك الخاصة والعامة. كل ما حصل، بما فيه مناوشات الأسلاك الشائكة خلال كل المظاهرات ليس عنفا من ذلك النوع الخطر على الاستقرار ولم يكن يوما كذلك. ولهذا فإن الكذبة الأوسع التي تختبئ وراءها الخدعة المشار إليها هي اعتبار الأمن في لبنان مهدّداً على يد الحراك.
في العمق، كان “عنف” الحراك الشبابي أول علامة على مساحة لا عنفية فاعلة في الحياة العامة اللبنانية.
يعرف قادة الميليشيات الذين خاضوا حروبا ضارية وانخرطوا في فتن طائفية ضارية أن الحراك هو علامة إيجابية على وجود الدولة وسلطتها. ولهذا هم ضده! الحراك هو مشروع دولة القانون ضد الدولة التي باتت قائمةً على بناء من اللاقانون يعرف أرباب النظام أكثر من غيرهم حجمه.
بهذا المعنى فالحراك هو نشاط مضلِّل (دون قصد جرمي) لأنه يحرّك الجزء الأضعف من الحياة العامة وهو وجود دولة. في واقع الأمر لا دولة إلا شكلاً أي دولة شكلية وليست فعلية وهؤلاء الشباب هم الفئة الوحيدة التي يسمح فيها النظام الطائفي الذي يديرها بأن تمارس هذه الدولة حيالهم دورها وكأنها دولة. حقيقة الأمر أن أهل الحراك “مُسْتَدْوَلون” قانوناً لأنهم بلا حَيْلٍ ميليشياوي.
إذن المفارقة الهائلة أن هذا الحراك في مضمونه وشعاراته يعيد خلق وهم الدولة العادية كما في أي بلد حديث. الدولة غير الموجودة فعلا لأنها تحت سلطة واقعية تختبئ وراءها وتمسك الأمن بتوازن رعب لبلد ما بعد الحرب الأهلية الساخنة يعيش حربه الأهلية الباردة.
الحراك “يبني” الدولة ويبني الأمن الطبيعي المتهم بتهديدها وتهديده. بينما السلطة الطائفية التي تهاجمه هي غير الدولتية.
كان “الدولتي” إذن وفي العمق هو الحراك في ساحتي الشهداء ورياض الصلح، بينما كان أعداء الدولة، أي أعداء بناء الدولة في المقلب الآخر. كانت دولة القانون عبر الحراك تواجه النظام المعادي للدولة والمسيطر عليها في كل تظاهرة.
نعود إلى ليلة “لوغراي”:
ما هو هذا “العنف” الذي جرى تقديمه كعنف؟
لم أرَ عنفا بل مجرد أحجار على الطرقات من النوع الذي لم يُقفل حتى مقاهيَ مجاورةً باستثناء مقهى الرصيف الذي أقفلته الأسلاك الشائكة ولا تزال تقفله كل مرة يكون هناك فيها مشروع تظاهرة. ولم يسرق أحدٌ محلاً واحدا. أما التراشق المدني وبأدوات بسيطة فهو شغب لا يرقى إلى مرتبة العنف في بلد خاض ويخوض حروبا. حتى الذي أرسل بعض رعاعه لتأديب بعض عُزّل الحراك وبسهولة شديدة، لا يمكن وصف سلوكه الوقح بالعنف الخطر! كان إذا جاز التعبير وقد لا يجوز!، عنفاً غير مسلّح لن نشكره عليه طبعا ولكن أجبره الحراك على استخدام أدوات قمع “أهلي” ولو فاجر من حيث غض نظر الشرطة عنه في تلك اللحظات. سِر هذا السلوك الرعاعي أن الخصم ليس خطِراً وإنما مزعج. ولو كان العكس لشاهدنا الضحايا تسقط بالسلاح. الضحية الكبرى حتى اليوم هي الشاب الذي طالته رصاصة آثمة في رأسه من أحد الأجهزة المسلحة الرسمية في بدايات الحراك.
لم أرَ، من زاوية الحراك، عنفا جديا في كل ما جرى. ويعرف قضاتنا في النيابات العامة وخصوصا العسكرية ما هو العنف الحقيقي (الطائفي والمخابراتي) الذي يهدد البلد.
كان “شَلَمَسْطِيَّةُ” النظام الطائفي، مقطَّعوهُ ومُوَصَّلوهُ، يعرفون أي “مزحة” أمنية يواجهون مع الحراك. الذي كان يخيفهم ليس الأمن وإنما الشرشحة غير المسبوقة التي يتعرّضون لها والتي تُسوِّد وجوهَهم كما لم يحصل ذلك معهم بعد طول سكينة سلطوية.
صحيح أنه منذ البداية ولا يزال هو حراك إحراج لا إخراج لكنّ فضله الأكبر أنه بصورة ما أثبت أنه بإمكان لبنان وجود دولة طبيعية ذات يوم أو جيل أو قرن.
كان حراك دولة – على وزن رجل دولة، وكان نظام لا دولة – على وزن عصابات عصبيّات.
ولو كنتُ مكان أحد القضاة الناظرين في الدعاوى، والذين لا أشك أن الكثير من أبنائهم يضغطون عليهم داخل منازلهم لصالح الحراك، لقلتُ في التقرير الظني أن الدولة تعتقل “رجالها” وربما الأدق تعتقل شبابها. لا بأس هنا من أن نبدأ باستخدام مصطلح: شباب دولة على وزن رجال دولة.
هناك “عنف” سلمي.
لبنان سيبقى تحت حكم النظام القوي- الدولة التافهة ولكنّ هؤلاء الشباب الطليعيين سيتذكّرون بعد أن يهاجروا قريبا إلى جامعات وشركات ومؤسسات الغرب أنهم ذات يوم عاشوا “عنفا” لا عنفيّاً سلمياً عميقا يعتزّون به.
لم أرَ عنفا تلك الليلة. ولم أرَ “قوى أمن”. شاهدتُ سياسيين مرتبكين من الشرشحة ولا يبتسمون في غرفهم المغلقة إلا حين تنقل وسائل الإعلام تصريحاتهم عن الاستقرار المهدّد. لأنهم اخترعوا الكذبة. الفارق فقط أن خدعهم السابقة لم تنطلِ، الخدعة الأخيرة نجحت.
أتفاءل بالبلد حين أرى هذا التراشق، أنا اليائس منه ومن التحريض المذهبي وإغلاق الشوارع والمناطق وإثقال الدولة بحجم من الأعباء البشرية وكلفها الزبائنية التي جعلتها جهازاً غير كفؤ، وأتفاءل أكثر حين أعرف أن السفارات الغربية تهتم بالديناميكية الحداثية والأخلاقيّة للحراك الشبابي وتُظْهِر أكثر فأكثر احتقارها لطبقة سياسية “تعرفها” هذه السفارات وبعضها وُلِد على موائدِ”ها”. وأنا منذ البداية أعتبر ومن دون تردّد وبكل واقعية أن التقييم الإيجابي لدى السفارات الغربية لهذا الحراك هو مكسب وطني وديموقراطي لبناني. مكسب سياسي بما هو انتزاع طليعة شبابيّة لرصيد (سفاراتي) كان يحتكره رجال النظام وبات يشكِّل قاعدة رئيسيّة للصراع السياسي لا في لبنان فقط بل في كل المنطقة (في سوريا تتنافس القوى الوطنية على من يجب أن يقصف أكثر بل على من يحق له القصف: الأميركي أم الروسي؟).
عليّ أن أنهي هنا بوقفة مأساوية:
لم أنتقد الحراك منذ فاجأتني ولادته. ليس لأنني أريد التغاضي عن أخطائه، فلا بد من أخطاء يرتكبها هؤلاء المحترفون والهواة النشيطون، ولكنْ لأنني نظرتُ إليه منذ البداية – التي بهَرَتْني – على أنه حلم يقظةٍ زائل. شيء جميل سيزول. جميل بكل ما هو عليه. ليس فقط لأنني لا أريد أن أنتقد ما هو زائل حتماً؟ كيف إذا كان محرّكا لمشاعر ووقائع وأهداف نبيلة؟ بل لأني لم أرَ أخطاءً تستحق التركيز رغم أن النقد يجب أن يكون دينامية أية حركة سياسية. كان الحراك كمولود يتيم وبلا مستقبل هو الذي يستحق الدفاع عنه. هذا النبل الحداثي هو قوة الحراك وانتحاره معاً. فالفكرة المشهدية التي سيطرت على تعاملي وتأييدي للحراك أنه حركة على طريق المطار. عناق سياسي ما قبل الإقلاع. أعني دائما تلك الشرائح المتنوِّرة من الطبقة الوسطى اللبنانية الليبرالية واليمينية ومن يشبهها حداثة وكفاءة على يسار هذا الجيل الشاب. ولدينا مشكلة إيجابية هنا. إيجابية ولكنها مشكلة في آنٍ معا: الجيل الأقدم، جيلنا، بيساره ويمينه، كان متورِّطاً بحرب أهلية طائفية، بإرث غير دولتي. هذا يربك مشهد الحراك حين يلتقي الجيلان في لحظة مشرِقة. حراك أهم ميزاته تعدّده غير الطائفي وتوجُّههُ الدولتي العلاجي والمطلبي.
مرّةً أخرى: هؤلاء الشباب الذين سيهاجرون قريبا كانوا لحظة رائعة هي أجمل من أن تكون حقيقية. عنف ليس عنفا. سلام مدني عميق ولو يتيم. أكبر حركة لا عنفية غير طائفية شهدها لبنان منذ عقود يجري إرهابُها من شتات من أعتى المحرِّضين المذهبيين باسم أنها عنفية!! ويعطون لبعض خيرة ما أنتجه المجتمع اللبناني من طاقات لا عنفيةٍ “دروساً” في السلام.