IMLebanon

هذه بلادي المسلوبة الإرادة والقرار

هذه بلاد تسمى دولة. لها دستور وقوانين ورئيس ووزراء ونواب. وبهذه الصفة يفترض أن تكون دولة واحدة. قرارها يأتي من مرجع واحد وقياداتها تعمل لمصلحة واحدة. يحب المرء أن يعتقد بالتالي أنها دولة مثل كل الدول. لكن هذه دولتي وهذه بلادي. وهي ليست مثل كل الدول.
هذه بلاد كل حزب فيها له رئيس خاص به كما له مجلس وزراء ونواب. وكل طائفة لها مصالحها وأهدافها وارتباطاتها. وهي تعمل من دون كلل لتحقيقها. لكن شعارها بالطبع هو «خدمة المصلحة العامة»، أي مصلحة الوطن، باعتبار أننا «كلنا للوطن»!
في هذه البلاد المسمّاة وطناً لا يصيب القانون فيها إلا الضعفاء ومكسوري الجناح. الأقوياء بواسطة السلاح والنفوذ أو بالعضلات الخارجية لهم قانونهم… لا الدولة تجرؤ على تحدّيهم، ولا هم يعيرونها اهتماماً على أي حال.
في هذه البلاد، كان يفترض بالبيان الذي أصدره 3 من رؤساء الحكومة السابقين، ودعوا فيه رئيس الجمهورية ميشال عون إلى «كبح المتمادين على موقع رئاسة الحكومة»، أن يحرك كثيراً من المياه الراكدة، باعتبار أنه كان صرخة تضاف إلى صرخات كثيرة أمام الاستقواء المتمادي على سلطة الدولة وعلى ما بقي من هيبتها وقوانينها. أقل ما كان ينتظر هو أن يدعو الرئيس عون الرؤساء فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام إلى قصر بعبدا لسماع موقفهم واستيضاح الأسباب التي دعتهم إلى إصدار ذلك البيان الواضح والمباشر الذي جاء رداً على خطاب للأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، أخذ فيه على رئيس الحكومة سعد الحريري تبنيه قرار القمتين العربية والإسلامية ضد التدخل الإيراني في شؤون الدول العربية.
في هذه البلاد كذلك يقف الأمين العام نفسه مفاخراً بامتلاك «صواريخ تطال كل الأهداف في إسرائيل وتستطيع تغيير وجه المنطقة». ويعلن قراره بتأسيس «مصانع لصناعة الصواريخ الدقيقة في لبنان»، ولا من يرد على تطاول بهذا الحجم على السيادة الوطنية وعلى قرارات استراتيجية يفترض أن تتخذها الحكومة مجتمعة. مع العلم بأن كل المدافعين عن «حزب الله» يصفونه بأنه «حزب لبناني»! ألا يفترض في هذه الحالة أن يحترم هذا «الحزب اللبناني» قوانين البلد الذي يوجد فيه وأن يراعي مصالحه؟ أم إن البلد سائب لكل يد طويلة تستطيع الهيمنة عليه؟
كان متوقعاً من رئيس الجمهورية مثلاً، وهو الذي أقسم على صيانة الدستور، أن يتوقف عند كلام خطير كهذا، وأن يطلب التحقيق بشأن هذه التهديدات «الصاروخية»؟ لكن؛ كيف كان يمكن للرئيس ميشال عون أن يفعل ذلك؟ وفي أي موقع كان سيتم تصنيفه لو فعل؟ والكل يعلم العملية التعطيلية الطويلة التي اقتضاها وصوله إلى قصر بعبدا، بعد «بادرة الوفاء» تجاهه من قبل «حزب الله»، التي تم تسديدها على صورة 6 سنوات في رئاسة الجمهورية.
كبح المتمادين على رئاسة الحكومة، وبالتالي على الدستور، ليس مطلباً مستحيلاً في ظروف طبيعية؛ ذلك أن رئيس الجمهورية المؤتمن على الدستور هو الذي يفترض أن يذكّر المخالفين بما تنص عليه المادة «64»، التي تحصر حق تمثيل الحكومة والتحدث باسمها في شخص رئيسها. لكننا كلنا نعرف أننا لا نعيش في بلد طبيعي ولا في ظروف طبيعية، كما نعرف أيضاً من هو صاحب القرار النهائي في شؤون البلد الكبرى، وأين هو موقع هذا القرار.
بيان رؤساء الحكومة السابقين الذي نتحدث عنه أظهر كأن المقصود بـ«المتمادين على رئاسة الحكومة» هم المسؤولون في «حزب الله». غير أن الواقع أن هذا المظهر جزء من الحقيقة، رغم أن هذا الحزب يكتسح موقعاً متقدماً عندما يتعلق الأمر بقرارات البلد المصيرية.
ففي لعبة الصراعات الطائفية والمذهبية التي يغرق فيها البلد يكثر المتمادون. كل يمد يده إلى حيث يستطيع؛ وطبعاً ودائماً برعاية «الأخ الأكبر» المقيم في الضاحية الجنوبية من مدينة بيروت، يوزع الأدوار على من يشاء وكيفما يشاء.
من هنا الدور المتعاظم الذي أخذ يلعبه الوزير جبران باسيل صهر رئيس الجمهورية. باسيل ليس فقط وزيراً للخارجية… إنه وريث الرئيس عون في قيادة «التيار الوطني الحر». ومحامي «الإنجازات»، ورافع لواء الحرب على الفساد، وكلها شعارات براقة وشعبوية، ومفيدة عندما يأتي موسم الحصاد في صناديق الاقتراع، وبصرف النظر عن النتائج التي تقود إليها الشعارات، ذلك أن ذاكرة شعبنا ضعيفة وقصيرة.
وزير خارجيتنا يتصرف بالتالي كرئيس حكومة رديف، ليس فقط فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، التي يفترض أن ترسمها وتقرها الحكومة مجتمعة، كما حصل في أكثر من مناسبة في اجتماعات وزراء الخارجية العرب، التي ظهر فيها لبنان مغرداً خارج السرب العربي، أحياناً بحجة «النأي بالنفس»، ودائماً بهدف عدم إغضاب إيران.
غير أن الوزير باسيل ينشط على جبهات أخرى أيضاً. آخر نشاطاته تلك الاتهامات التي أطلقها ضد «شعبة المعلومات» التابعة لقوى الأمن الداخلي، وبالتالي لوزارة الداخلية، وما استدعاه ذلك من رد عليه وصف بـ«العنيف» من قبل وزيرة الداخلية ريا الحسن، غمزت فيه من قناة أهداف حملة باسيل ودعواته المتكررة إلى مكافحة الفساد، مع أن الحزب الذي يرأسه (التيار الوطني الحر) ليس محصناً بالكامل ضد هذه التهم. قالت الحسن في ردها: «أتفهم وأعلم جيداً برنامج ودوافع الزميل العزيز. أما أن يتم استخدام ذلك للإيحاء بأنه المصلح الوحيد في البلاد وبأن ما يقوله قوانين ومبادئ يجب الاحتذاء بها؛ فهذا يدفعني إلى الاعتذار منه والطلب منه بمودة واحترام أن يترك الأمور لأصحاب الشأن ولا يعمد إلى التشويش على عمل باقي الوزارات».
لم يتوقف الأمر عند وزارة الداخلية. فخلال المسلسل الماراثوني الذي استغرقه نقاش موازنة عام 2019، والذي كشف مدى ارتهان القرار المالي للضغوط الخارجية ولنفوذ الدائنين، وقف باسيل على حلبة مجلس الوزراء في وجه وزير المال علي حسن خليل والوزراء الآخرين، الذين لا ينتمون إلى «التيار»، ولا إلى «حزب الله» بالطبع، مهدداً بتعطيل البنود التي لا يوافق عليها، بحجة الحرص على المال العام، في اتهام مبطن للآخرين بأنهم هم أهل الفساد، فيما «التيار» ورئيسه من اللون الأبيض الناصع.
إنها دولة مسلوبة الإرادة والقرار… تتصارع مصالح الطوائف والمذاهب على ما تبقى منها. كل زعيم يذهب إلى الحلبة حاملاً شعار طائفته. غير أن نتائج الصراع فوق هذه الحلبة محسومة سلفاً وبدقة. لقد انتهت التوازنات إلى وضع أمور البلد في موقع واحد وفي يد قيادة واحدة، وربما فات الوقت لتغيير هذا الواقع.