كما كرّرنا مراراً وقال آخرون، إن هناك غطاء دولياً، سياسياً اقتصادياً فوق لبنان منذ مدة طويلة. ورغم أن الغطاء ترعاه، في الوقت نفسه أميركا والسعودية من جهة وإيران من جهة أخرى فإن مصالح هذه الدول تتقاطع على أن الاستقرار في لبنان ضروري لمصالحها وأن الفوضى غير مقبولة إذا تجاوزت حداً تصعب السيطرة عليه. في هذه الحال، التحرك الأساسي لتصحيح الأمور يأتي عادة من الجهة الأميركية.
لم تحرك حادثة قبرشمون وحوادث أخرى مشابهة الغطاء أو تتطلب تدخلاً خارجياً. ما دفع اميركا الى التحرك هو ما حدث بعد الحادثة. التوتر الطائفي والمذهبي والكلام غير المسبوق الذي صدر من الجهات المختلفة، أوصل الأمور إلى حالة الخطر التي استدعت التدخل الأميركي. الخطوة الأولى كانت جولة سفيرة الولايات المتحدة على بعض الفاعليات السياسية المحلية. وعندما تبين أن هذه الجولة لم تعط ثماراً، صدر بيان السفارة الأشبه بالفرمان العثماني الذي جاء فيه أن “الولايات المتحدة أبلغت “السلطات اللبنانية” بكلام واضح توقعاتنا بان هذه السلطات ستتعامل مع المسألة بطريقة تحقق العدالة من دون تأجيج التوترات الطائفية أو المناطقية لأسباب سياسية”. بالتوازي تم تسريب إمكانية وضع أسماء بعض السياسيين المعنيين على لائحة العقوبات. وبسحر ساحر تمّت المصالحات في اليوم التالي وتمّ اجتماع الحكومة الذي كان غير منتظر. وتدبرت زيارة رئيس الحكومة إلى واشنطن لمقابلة مجموعة من كبار المسؤولين بمن في ذلك وزير الخارجية مايك بومبيو.
الكلام كثير عن نتائج هذه الزيارة ولكن بعد التمعن يصعب أن يرى الانسان موقفاً أميركياً جديداً فيها. الجديد هو إحياء أربعة مواقف أميركية قديمة، ولكن بزخم كبير هذه المرة.
أولاً: إن اللعب بالاستقرار الأمني في لبنان ممنوع عندما تصل الأمور الى خطر الانفجار. من دون ذلك، لا بأس أن تتحركوا كما تشاؤون.
ثانياً: لقد صفّقنا لكم عندما أنجزتم الموازنة ولكنها لا تشكل ولو بداية جدية للإصلاحات المطلوبة. تخفيض المعاشات التقاعدية ليس اصلاحاً جدياً. عليكم التعامل مع مشكلات التهريب عبر المطار والمرفأ والممرات غير الشرعية، ومع مشكلة الكهرباء توظيفاً وجباية وإدارة، والاملاك البحرية، وغيرها من التسربات الاقتصادية الكبيرة. أموال “سيدر” لن تأتي قبل ذلك وستكون مضبوطة إلى آخر درجة.
ثالثاً: أصبح من الضروري ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. دايفيد ساترفيلد قام بزيارات مكوكية بين لبنان وإسرائيل ولم يفلح في الوصول الى اتفاق. نائب وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، الذي حلّ محل ساترفيلد، سيزور بيروت قريباً ونأمل أن مساعيه ستصل هذه المرة الى نتيجة سريعة في هذا المجال. (يذكر هنا أن الرئيس الحريري تكلّم عن هذه القضية عند انتهاء رحلته الأخيرة بشكل إيجابي، معتبراً أن حلّ هذه القضية سريعاً هو لمصلحة الجهتين).
رابعاً: أحد أول اجتماعات الحريري الرسمية في واشنطن كان مع مارشال بيللينغلي، نائب وزير الخزانة الأميركي، ما يعني أن الاهتمام الأميركي بقضايا تبييض الأموال والتشدد في تطبيق العقوبات على “حزب الله” ما زالا أولويتي السياسة المالية الأميركية، وأن لبنان ما زال تحت المراقبة المشددة في هذا المجال.
لا شك أن هذه الأمور الأربعة كانت واجهة اللقاءات التي لخصها بومبيو في اجتماعه الأخير مع الحريري. بعض هذه الأمور تطاول مصالح أحزاب وتيارات سياسية فاعلة خففت الى حد كبير في تطبيقها، كما كانت الحال مثلا بالنسبة إلى الزيارات المكوكية لساترفيلد التي باءت بالفشل، أو كما أفشلت المرجعيات السياسية محاولات الإصلاحات الجذرية المطلوبة ليتم الاكتفاء بالإصلاحات الصورية في الموازنة الأخيرة. يظهر أن هذه المرة ستكون الضغوط الأميركية شديدة لمحاولة كسر الحواجز التي كانت تقف في وجه هذه الإصلاحات، تساندها تهديدات من نوع وضع البعض على لائحة العقوبات.
هل ستنجح هذه المحاولة؟ سنرى في الأسابيع القادمة.
* سفير لبنان في واشنطن سابقاً