نشيّع شهداءنا. هم شهداء لأن الذي قتلهم عدو إسرائيلي. نتقبّل التعازي. نرفض تصديق في أي عالم نعيش. مقدساتنا تحتقر، فتجري تظاهرة يقودها زعماء العالم لتأكيد ذلك. مقدساتهم من نوع آخر. يعاقب من يشكك بالهولوكوست. يعاقب من يتفوّه بكلام يعتبر عنصرياً بنظر إنسان أسود البشرة. يعاقب من يرمي نكتة حول الحرب العالمية على الإرهاب. فهذه أيضاً مقدسة. يشاركون فيها ويفرضون علينا أن نشارك فيها، أو نقدسها برغم أننا من ضحاياها. نفاق يتجاوز ازدواجية المعايير. لا نستحق المعايير التي يطبقها الغرب على نفسه.
الذين ارتكبوا مجزرة «شارلي إيبدو» مواطنون فرنسيون من أصول عربية إسلامية. في الوقت نفسه يُعاد الفرنسيون اليهود ليدفنوا في ما يعتبر موطنهم الأصلي: إسرائيل التي أقيمت باحتلال أرض عربية في فلسطين. العودة إلى الأصول تطغى على إعلام دولي يتجاهل أن الأصول أوهام لا تقرر الانتماء أو الجنسية أو المواطنية. نعاني من أصوليتنا ونناضل ضدها. يباركون أصولية اليهود، كي يدفع العرب ثمنها. نوصم بالأصولية، وتبارَك أصولية اليهود. أوهامهم تتحول إلى حقائق، حقائقنا تصير أوهاماً؛ تُملى علينا الشروط في الحالتين. الإملاء يحدث بالقوة. هم الأقوى. وهم يمتلكون الحقيقة. هم يصنعونها. نحن نستهلكها. من يمتلك الحقيقة يفكك ويدمر حقائق الآخرين.
هذا زمن التفكيك وفقدان المعنى وتلاشي القيم. السيادة هي فقط للقوة العسكرية والمال؛ وكل منهما مواجهة للأخرى. التفكيك صيغة فكرية لنظام عالمي اخترق كل الكرة الأرضية ولم يترك زاوية إلا ودخلها. يزعم أن التفكيك، وريث البنيوية، هو مجرد نظام فكري للنظر إلى النصوص، فإذا به برنامج لنظام مادي للنظر إلى المجتمعات وتفكيكها وإخضاعها، وذلك من أجل تأبيد الهيمنة الإمبريالية بواسطة التدفقات المالية والقوة العسكرية.
لا بد للتفكيك من العمل على نسف المعنى. ما عاد المعنى متضمناً في النص ليكتشفه القارئ، صار خارج النص لتقرره نخبة من القراء الذين ينتخبهم النظام. يُنسف المعنى بحصره في نخبة إيديولوجية يُناط بها الأمر. تتلاشى القراءة من أجل الفهم لدى العامة. يحصر الفهم بالخاصة. يفرغ النص من المعنى إلا ما تريده وما تفرضه هذه الخاصة. وهذه هي وظيفة الإعلام، وهو في معظمه موظف لدى رأس المال وأصحاب القوة. الأقوياء يزيحون الكاتب، ويكتبون له معنى ما كتب. يمنحون الأقوام الضعيفة المعنى بتحويلها إلى أشياء تستخدم ولا تستحق المعنى، أو لا تستحق أن تستخرج المعنى ولا أن يكون لها معنى. بشّرونا بزوال العمل مع تقدم التكنولوجيا ليحل التفكير مكان السواعد القوية، لكن التفكير انحصر بيد نخبة من أتباع نظام القوة الإمبراطورية.
تتشابك أيدي قادة العالم الرأسمالي، تسير وراءهم الجموع. القادة يعرفون ماذا يريدون، والجموع وراءهم ينساقون وراء ما يُراد منهم. صودرت الديموقراطية، وهي لم تعد تتعدى في مجالها النخبة المصطفاة لدى أهل المال والقوة العسكرية الإمبريالية. كانت عملية مخلة بالأمن قام بها أفراد مواطنون تنم عنهم بشرتهم بلونها الداكن؛ هاجروا من أرض لم يستطيعوا العيش فيها إلى أرض عيون أهلها زرقاء وبشرتهم فاتحة، ولا تريد منهم البقاء فيها. تنقطع الهجرة علماً بأن كل المجتمعات البشرية تأسست على الهجرة. ينقطع التاريخ ويلغى. التفكيك يلغي التاريخ.
مع التفكيك يجيّر كل المعنى من أصحاب المال والقوة إلى الصهيونية. تقتل إسرائيل أبناء قومنا في أرضهم وما يسمى المجموعة الدولية لا يرف لها جفن. أربابها يجتمعون في دافوس ليبحثوا شؤون المال حيث عشرات الأشخاص يمتلكون أكثر مما تمتلك نصف البشرية. لديهم في دافوس متعة الدفء وسط الثلوج. وأبناء منطقتنا يموتون من الجوع والبرد والتهجير والتخريب والتدمير. نهب أهل دافوس ثروات منطقتنا ويتمتعون بها. أما الجائعون هنا فإسرائيل لديها تكليف بقتلهم. أهل أرضنا يعاقبون على ما اقترفت أيديهم. حرّروا بعض الأرض، وهذا خروج على نظام العالم.
مشكلة الغرب معنا أن فلسطين ليست نصاً. هي شعب وأكثر. هي أمة عربية لا يسهل انتزاع المعنى منها.
نعزي أنفسنا، ولكن…