Site icon IMLebanon

هذا الانسحاب الذي يشبه الهجوم

قراءة في موقع القرار الروسي على خارطة “الجريمة المنظمة” أو الإسم الجديد للشرق الأوسط الذي أطلقه الرئيس باراك أوباما:

تدخل الحرب السورية مع القرار الروسي بسحب “الجزء الأكبر” من التواجد العسكري في سوريا مرحلة جديدة في مسار طويل جدا لا زلنا في بدايته وربما استغرق عقدا، من محاولة إيجاد حل سياسي. هذه هي “البيئة السلمية للحرب” بعدما كانت قبل الاتفاق الأميركي الإيراني ومنذ العام 2011 بيئةً حربية للحرب. لكن في الحالتين الحرب مستمرة.

استحصل قرار الرئيس بوتين هذا على إعجاب شامل في العالم المعني بالحرب السورية. حركة شطرنجية من الانسحاب الذي هو أقرب إلى الهجوم:

– كسر نظرية التورّط الروسي والتشبيه بالتجربة السوفياتية في أفغانستان. هذه الثرثرة لن تكون متيسرة بسهولة بعد الآن. كذلك يلغي القرار أي تشبيه مع تجربة بوتين في تشيشنيا التي دخلها الجيش الروسي ولم يخرج حتى قضى نهائيا على الانفصاليين بكلفة عالية جدا.

– تعويم البعد السياسي على العسكري مع استمرار جهود جنيف.

– إضعاف بل إقفال أي مجال للضغط الداخلي الروسي الشعبي يعتبر سياسة بوتين تبديدا للثروات الروسية في مغامرات عسكرية في وقت تظهر فيه مؤشرات الاقتصاد الروسي غي مطمئنة.

– إعطاء الفرصة للرئيس رجب أردوغان بتغيير سياساته المتطرفة دون إهانته. بل اعتبار القرار الروسي إنجازا له يسمح بتغطية تراجعه عبر الانضمام إلى جهود التهدئة السياسية.

ولذلك علينا أن ننتظر ماذا ستكون الخطوة التركية الكبيرة المقبلة إذا كان هذا القرار البوتيني، عكس الرائج، جزءاً من اتفاق ما كبير غير معلن، لا سيما مع واشنطن، يتضمن عددا من “التراجعات” للدول الأساسية في الصراع. إذ يجب أن لا ننسى أن “عسكرة” الثورة السورية أواخر عام 2011، القرار الذي جعلها حربا لا ثورة، هي بكل بساطةٍ وتبسيطٍ فتحُ الحدود عسكريا مع سوريا بقرار غربي إقليمي. كما يجب أن لاننسى أن الدخول العسكري القتالي الجوي الروسي إلى سوريا قبل أشهر لا زال يحمل شبهة التفاهم مع واشنطن في أجواء ما بعد الاتفاق النووي السداسي.

قوة هذا القرار البوتيني الشطرنجية أنه يربح الكثير ولا يخسر شيئا.

لم يترك الرئيس فلاديمير بوتين سوريا. القرار يعني في الميدان ترك منطقة إدلب لتركيا ومعظم الحدود التركية السورية للأكراد عدا بعض المناطق الضيقة لتركيا أقصى شمال حلب وتوسيع رقعة نفوذ النظام في جنوب دمشق مع ترك مناطق معينة لإسرائيل والأردن وعبره السعودية. هذا اعتراف روسي بمناطق نفوذ وإن كان لا يكفي حتى اليوم لاعتماده أساسا واقعيا للفدرالية الآتية لا محالة إلى سوريا الجديدة والتي ثبت عبر التجربة العراقية أنها “ناجحة” في قيام تقسيم أمر واقع داخل دولة واحدة. وقد تكرّست منطقة الساحل السوري وجبالها بكاملها مع امتداداتها إلى دمشق منطقة تحت الحماية الروسية. فالرئيس الروسي يسحب “الجزءالأكبر” وهو يعرف والجميع يعرف أن بقاء طائرة روسية واحدة شمال اللاذقية جاثمة على أرض القاعدة العسكرية الروسية هناك يكفي لتأمين الحماية السياسية لتلك المنطقة حتى دمشق وجعل وجودها رادعا.

المحللون الغربيون عموما أكثر تحفظا منا نحن العرب في الاسترسال بتوقعات جازمة. لكن ما يلفت النظر هواتفاق كارهي النظام السوري ومحبِّيه على القول أن هدف إعلان انسحاب “الجزء الأكبر” من القوات الروسية هو عملية ضغط على هذا النظام وسحب الذرائع من أمام معارضيه الداخليين والخارجيين في آنٍ معاً. يعني الضغط على كل الأطراف.

أظن هذه عملية ترويج إيجابية وإن تكن مبالغا بها من جهة تأويلها على العلاقة الروسية مع الرئيس بشار الأسد. فمثلما قيل مراراً ولأسباب تعبوية أن الروس سيفاوضون على أوراق أخرى وعندما يحصلون عليها سيتخلّون عن سوريا، وظهر خلال هذه السنوات أن سوريا موقع ثابت وهام في الاستراتيجية الروسية لا تراجع عنه، الآن ستصم آذانَنا وعيونَنا موجةُ تحليلات وتوقعات عن تخلّي بوتين عن الأسد والسعي للمساومة على رأسه. هذا لا يعني أن أي حل نهائي بعد سنوات لن يلحظ بالنتيجة إنهاء دور الأسد أو تخلِّيه طوعاً عن دوره ضمن سلة تحفظ موقع الطائفة العلوية وتحالفاتها في الصيغة الداخلية السورية. لكن لا زلنا بعيدين جدا عن تسوية من هذا النوع حتى لو انطلق الآن طبخ بيئة التسوية بين دول لا ننسى أنها هي التي اتخذت قرار العسكرة.

ولنراقب: هل يعيد هذا القرارُ- الجِسرُ الروسي الممدودُ الوجهَ البراغماتي لرجب طيِّب أردوغان ، الوجه الذي فقده في السنوات الأخيرة وآخر مظاهره المتطرفة وصفه لكل صحافي وأكاديمي وسياسي تركي بأنه إرهابي إذا دعا إلى موقف مختلف حيال المسألة الكردية.

على أي حال وبسرعة سيظهر البعد التوافقي لا الصدامي في هذا القرار الروسي عند معظم اللاعبين. القرار – الجسر مع أن السنوات الآتية من الحرب- الهدنة- المطبخ السوري سيمد ويفجِّر الجسور نفسها وغيرها ويعيد وصلها. الرواية طويلة في هذه “الجريمة المنظمة” الاسم الجديد للشرق الأوسط حسب وصفٍ “خلاق” للرئيس باراك أوباما في مقالة جيفري غولدبرغ معه وعنه في “ذي أتلانتك”!

عبر قراره الأخير، لا “يتفادى” الرئيس الروسي “الشرق الأوسط” كما دعا إلى ذلك الرئيس أوباما في المقالة المشار إليها، أي إلى تفادي منطقتنا. بالعكس لأن روسيا على حدود هذه المنطقة وجزءٌ من تفاعلاتها الدينية والجيوسياسية. فلاديمير بوتين ينظّم حضوره فيها.

والحرب – الهدنة- الحرب السورية طويلة.