الأمر أبعد من مجرد مبادرة طرحها رئيس تيار المستقبل سعد الحريري، وأبعد بكثير من حدود تلقف هذا الزعيم اللبناني او ذاك لهذه المبادرة لتصبح تسوية رئاسية قادرة على انهاء الشغور الرئاسي في لبنان، فلب المسألة بحسب أوساط دبلوماسية عليمة في بيروت تتعلق بأوضاع المنطقة الملتهبة عموما وما يجري في سوريا واليمن وغيرهما من الساحات المتفجرة خصوصا.
ما يعني بحسب الأوساط عينها أن التسوية الرئاسية وإن جرى تظهيرها وتسويقها بواسطة بعض القوى اللبنانية المحلية التقليدية إلا أن هذه التسوية أتت نتيجة مخاض طويل وعسير بين القوى الدولية والإقليمية، نتج منه ولادة هذه التسوية الرئاسية التي تفضي بانتخاب الرئيس سليمان فرنجية رئيسا للجمهورية وعودة الرئيس سعد الحريري رئيسا للحكومة اللبنانية. وبالتالي فأن هذه التسوية التي جرى رسم معالمها بإتقان ما بين باريس والرياض ودمشق، وصولا إلى واشنطن وموسكو وغيرهما من عواصم القرار في العالم والإقليم هي أقوى بكثير من أن يعطلها هذا الفريق اللبناني او ذاك، خصوصا ان التجارب المريرة للبنان تدل بشكل قاطع على ان من يرفض التسويات الدولية والإقليمية المطروحة على لبنان من خلال التشاور والحوار، سيعود ويقبلها تحت وابل الحديد والنار، ولعل تجربة اتفاق الطائف الذي تمخض عن الحرب اللبنانية التي في نهايتها رفض المسيحون معادلة مخايل الضاهر أو الفوضى ليعودوا بعد ذلك ويقبلوا مرغمين في الذهاب نحو الطائف الذي انتزع من المسيحيين أهم امتيازاتهم وهي صلاحيات رئيس الجمهورية الاساسية ، أما في العام 2008 وبعد ان أدار البعض ظهره لحراك الشارع الرافض للحكومة البتراء وغير الميثاقية عاد وقبل بشرط هذه الميثاقية بعد أحداث 7 آيار التي دفعت بجميع القوى السياسية الى الذهاب إلى قطر لإقرار اتفاق الدوحة الذي كرس في جميع الحكومات اللاحقة مبدأ الميثاقية المحمي بالثلث الضامن.
وتضيف الاوساط ان السيناريو هو نفسه يتكرر اليوم، حيث أن بعض الأحزاب المسيحية وبلحظة شعبوية لا تزال تظن نفسها بأنها أقوى من كل العالم، وبأنها تستطيع بشطبة قلم أن تمحو ما كتب بين الكبار بشأن التسوية الرئاسية في لبنان التي تبقى فيه كلمة الفصل النهائية في الاستحقاق الرئاسي للخارج، وهذا أمر ليس جديدا بل هو أمر اعتاد عليه لبنان وشعبه من نشأة وتكوين الكيان اللبناني. وبالرغم من كل ذلك لا تزال بعض القوى المسيحية تحت عنوان «أنا أو لا أحد» في قصر بعبدا متمسكة حتى اشعار آخر برفض التسوية الإقليمية والدولية التي تؤمن وصول رئيس قوي للجمهورية من بين الأقوياء الذين جرى التوافق عليهم في بكركي تحت رعاية البطريرك الماروني بشارة الراعي بشكل مباشر، وهذا الرفض في حال استمراره ستكون له عواقب وتداعيات وخيمة على المسيحيين عموما وعلى موقع رئاسة الجمهورية خصوصا، الذي سيندثر ويزول من تركيبة النظام السياسي في لبنان بموجب التسوية الجديدة التي ستحل لاحقا مكان التسوية الرئاسية الحالية، والفرق الاساسي بين التسوية الحالية والتسوية الجديدة سيكون عدم قدرة جميع اللبنانيين على رفضها أو حتى مناقشتها، لأن هناك معلومات متداولة في الكواليس الدبلوماسية تشير بوضوح الى ان سقوط تسوية انتخاب النائب سليمان فرنجية، يعني دخول المسيحيين وكل اللبنانيين مجددا في نفق مظلم لن ينتهي إلا بفرض تسوية جديدة بقوة الحديد والنار وبعد أن تسيل الدماء في كل أرجاء لبنان، وفي هذه الحالة لا أحد يضمن بقاء موقع رئاسة الجمهورية للمسيحيين الذي من المرجح عندها أن يصبح شيء من الماضي، كما اصبحت صلاحيات رئيس الجمهورية والامتيازات المسيحية في الدولة اللبنانية بعد الطائف مجرد أطلال، عفا عنها الدهر ولم يعد بالإمكان في ظل المتغيرات والظروف السياسية المحلية والإقليمية والدولية العودة اليها في أي شكل من الأشكال.
وبناء على ذلك تشير المصادر الى انه يخطئ كثيرا من يظن بأن تلكؤ البعض عن السير بالتسوية الرئاسية المطروحة سيغير أي شيء من المعادلة الدولية والإقليمية الداعمة لوصول النائب فرنجية الى الرئاسة، أي أن على القوى المسيحية أن تدرك بأن المناورة في طرح أسماء أخرى، أو وضع الشروط التعجيزية أمام التسوية، لن يغير شيئا من السلة المتكاملة المطروحة التي يجب على المسيحيين أن يقبلوا بها كما هي أي على قاعدة القبول بانتخاب النائب فرنجية رئيساً للجمهورية، أو أن يتحملوا وزر وعواقب رفضها الذي لا يزال رفضا غير مبرر وغير مقنع لأي من القوى الدولية والإقليمية المتمسكة بهذه التسوية التي اما أن تنهي الفراغ الرئاسي بانتخاب النائب فرنجية رئيسا للجمهورية، أو ترك الوضع المأزوم في لبنان مفتوحاً على شتى العواقب الوخيمة على اللبنانيين عموماً وبشكل خاص على المكون المسيحي الذي سيتم تحميله المسؤولية الكاملة عن اجهاض هذه التسوية.