طالما امتدح العالم، عن حق، ما كان يسمى التعدّد في لبنان، هذه البقعة التي اخفقت في كل شيء، إلا في كيف تكون ملاذاً للفازعين. وقد احتضن لبنان على مرّ العقود، وخصوصاً اولئك الذين طعنوا في وجوده، وهزئوا من سيادته، واعابوا عليه مبررها: الحرية وشغفها.
وإذ تنهار التجارب العربية التعددية على نحو محزن وفائق الخطورة والعسف، يجالد لبنان في صون مظاهر التعدد وجوهر الاحتضان. ويتجاوز هذا الواقع المحاصر قصائد التغزل الوطني وشبّابات الزجالين. فالحقيقة هنا أعمق وأوسع من مخيلات القوّالين، على رغم ما يشوبها، كل يوم، من شطط وخروج على قيم التعايش وادبيات الأمس.
نُظُم التعايش العادل تهددها فقط نوازع الاستبداد. لأن الاستبداد، في طبيعته، مبني على الغطرسة، والغطرسة مولودة في الأنا، والأنا في طبيعتها الغاء مطلق لكل ما عداها. والاستبداد قد يكون فردياً، وقد يكون جماعياً، وقد يكون أقلياً أو أكثرياً، لكنه في جميع حالاته يفضي إلى وخائم متشابهة على الدول والشعوب والأمم، كما في آسيا كما في أوروبا، وكما في أفريقيا كما في أميركا اللاتينية.
وعندما أفكر في العيِّنة اللبنانية، لا أستطيع طبعاً أن أفكر في المثال البريطاني أو النموذج السويسري، ولكنني اتمنى دائماً أن نستلهم الهند، الدولة التي استقلت في المرحلة نفسها، واعتمدت ايضاً النظام الديموقراطي لكي تتمكن من احتضان أسرها وجماعاتها وطبقاتها ولغاتها وأديانها وفروقاتها.
وبسبب خوف دائم على هشاشة العيّنة اللبنانية، المحاصرة بارتجاجات الخارج وزلازل المحيط، تابعتُ باستمرار أحوال الهند، باحثاً أبداً عندنا عن رجال يشبهون السياسيين الهنود، أو الاقتصاديين، أو المفكرين، أو أهل القضاء. لست من السذاجة بحيث لا أعرف المحدوديات، لكنني من السذاجة بحيث لا أفقد الأمل. فالمراهنة في التاريخ، لا تكون أحياناً على أكثر من رجل، أو بضعة رجال يتولون الارتقاء بشعوبهم وأممهم، وليس بأنفسهم أو جماعاتهم أو ايديولوجياتهم. والهند سرّها، كما يُخيل إليّ بكل تواضع، مستحيل هنا. لقد اختار الهندي، الفقير والذي ينام في الشوارع ويولد دون سقف أو مغسلة، اختار دوماً رجل المرحلة الأمثل. في معركة الاستقلال سار وراء غاندي ونحوله وبساطته ومسالمته. وبعد الاستقلال سار وراء نهرو، المؤسس والمفكر والحالم، وفي العصر الاقتصادي سار وراء علماء الاقتصاد وكبار الخبراء وأهل العصر والزمن الحالي. أي زمن المستقبل.
عندما تقدمت جميع الولايات على نحو مثير، وبقيت بيهار في تخلّفها لما قبل القرون الوسطى، إذ وصفها في. اس. نايبول بأنها “آخر حدود قبل الحضارة”، اكتشف “المتأخرون” أن عليهم أن ينتخبوا لحكم الولاية رجالاً متقدمين، لكن المتخلفين قرروا أن يأتوا بشبان فيهم حيوية وعلم وثقافات، وفيهم طاقة على احتمال الوقائع من أجل العمل على تغييرها. فالتغيير لا يحققه المتصلبون ومتوارثو الافكار البالية. لم يغيّر الهنود رجالهم فقط، بل غيّروا جوهر احزابهم ايضاً. وراول غاندي الحفيد (41 عاماً) لا يمثل نهرو أو الجدة انديرا، بل الهنود الذين في مثل سنه وكفاياته.
يسافر الهنود إلى الغرب اليوم مصرفيين ومهندسين وأطباء وتجاراً ومستثمرين، بينما تمتلىء شوارع أوروبا باللاجئين العرب. وتبحث أوروبا عن عشرة آلاف طفل عربي رمتهم امهاتهم إلى الهجرة على أمل توسل الإقامة و”لمّ الشمل” من خلالهم. وبعض اللاجئين الذين يهددون الوحدة الاوروبية باعبائهم الطارئة، هم لاجئو فقر وحريات، وليسوا نازحين عنف. مع العلم طبعاً أن العنف العربي يتخذ جميع اشكال الشراسة في حق أهل الأرض واصحابها. ولم تعتد الدانمارك منذ جملة شكسبير الشهيرة “ثمّة شيء عفن في دولة الدانمارك” – لم تعتد أن ترى طفلاً في الشارع يتسول لقمته. غير أن شوارعها مليئة اليوم بالاطفال والنساء الحوامل المحاطات بالمواليد الجدد. وتمنع الشرطة الدانماركية على المتسولات أن يخدِّرن الطفل الذي على ايديهنّ طوال النهار، كما يحصل في شوارع بيروت، حيث لم يعد شيء يصدم أحداً. لا المشاهد ولا الكلام ولا الكتابات. ولا مستويات النقاش.
لم يعد المواليد الجدد عبئاً في الهند. بدل فرض منع الحمل، اصبحت الهند – مثل الصين – ترحب بالقادمين. اقتصادها يسعى لكي يؤمن لهم المدرسة والعمل، وليس كما في العالم العربي حيث تبلغ الأمية بين النساء 70% أحياناً. أو حيث يولد في مصر طفل آخر كل خمس ثوان، إلى مجهول حياتي لا يكف عن التردي والانهيار. أما معدلات البطالة فلم تعد همّ الحكومات التي تراوح مشاغلها بين ترحيل النفايات أو توطينها. وطن النجوم انا هنا / حدِّق، اتذكر من انا؟ طبعاً أعرف. أنت الغارق في الزبالتين، الفساد والقمامة.
ثمة سر آخر في النموذج الهندي: الاستقرار السياسي. لنتذكر عدد الدول التي انضوت تحت مظلة “عدم الانحياز” و”الحياد الإيجابي”: مصر. يوغوسلافيا. أندونيسيا. وعشرات غيرها. لكن الأكثرية الساحقة من تلك الدول، إما تفككت مثل يوغوسلافيا، وإما دخلت دوائر الاستقطاب وذل المساعدات الخارجية، وظل العدد الأكبر من سكّانها تحت حزام الفقر والبلادة والتخلف، بعيداً من العصر وبهر الثورات التقنية.
تتطلع الهند إلى النصف التالي من القرن الحادي والعشرين فيما يحلم هذا الجزء من الشرق بشيء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر. أيام كان الهم الشعبي العام، الاستقلال عن الأجنبي، لا الاحتفال بالتزلم له، وأيام كانت النهضة همّ الخاصة وشغف العامة وإرادة الأمة، الباحثة عن وشائجها كعائلة، وليس عن اشلائها كقبائل ومذاهب وكهوف، وعربدة دموية براً وبحراً وجواً.
ذهب السوريون إلى جنيف تاركين خلفهم جميع الأمم تتضارب بهم وعنهم. الدب الروسي الهائج والحمار (1) الأميركي الضائع، وكل من له مرتزقة في أنحاء الأرض. وواضح أنه لم يعد أحد يريد الحل في سوريا سوى أهلها الهالكين بين شعارات أميركا المملة والحرث الروسي في خريطة الشرق الأوسط.
انتهج النظام السوري القوة بحجة أن ثمة مؤامرة (دائماً كونية) عليه، فإذا جميع مؤامرات الكون تتناحر من حوله. ذلك خطأ من يبني على اساليب الماضي في معطيات ومتغيرات الحاضر. حصر الانفجار في درعا كان يمكن أن يتم بشيء من الاحتضان، وليس بالمدفع القديم. لأن المدفع يجر الدبابة، والدبابة تجر الطائرة، والطائرة تجر القتل الأعمى، والتشرد الأعمى، والخراب الأعمى، وصورة الطفل الكردي إيلان التي اصبحت ايقونة الحروب وهمجيات البشر.
الهند كانت هي الحل، والهند التي تصورنا معها في المؤتمرات من غير أن نتطلع إلى انجازها الإنساني العظيم في القدرة على تطبيق الحل الديموقراطي وحرية الفكر والاختيار. بدل ذلك، اخترنا أن نقلد الانقلابات العسكرية في باكستان، والحزب الواحد في المانيا الشرقية، والرجل الواحد في رومانيا.
لم نُدرك معنى سقوط الاتحاد السوفياتي وقوته، لذا لم نستدرك الأمر بشيء من الحرية أو بضع صحف جديدة. كان التلكس ممنوعاً في العراق. والحصول على فاكس كان يتطلب اذناً خاصاً. ولم يخطر في بال أحد أن اغلاق الابواب يزيد عدد النوافذ.
منذ اللحظة الأولى للاستقلال، اختار حزب نهرو أن يستمر في الحكم من خلال الحريات، لا الاستبداد. أدرك أن الهندي الذي مات من أجل الاستقلال سوف يموت من أجل الحرية. اعطاه الإثنين. وثمة أربعة أجيال الآن من عائلة واحدة، ميزتها الكبرى البقاء من خلال الاقتراع، لا من خلال الاستفتاء. عائلة تقدم الارواح في سبيل وحدة الهند، وتقدم النفس في سبيل حرياتها.
تعلّم نهرو معنى الحرية في السجن. وعندما خرج كان قد قرر أنه لن يسمح بسجن هندي من أجل رأيه أو موقفه أو انتمائه. وفي ظل مثل هذا الدستور العالي، بنى من أفقر شعوب الأرض تجربة شبيهة بالتجربة الاميركية. هوية واحدة لمجموعة تعددات وتناقضات يجمع بينها قانون واحد، وتظللها حماية واحدة، وسقف واحد، وجيش واحد.
قبل أيام التقى البابا فرنسيس البطريرك الروسي كيريلس. أكبر دولة في الأرض وأصغر دولة عليها. أين التقيا؟ في كوبا، الدولة المصرّة على الشيوعية التي نستها روسيا. أنهى الحبران مقاطعة عمرها ألف عام. هذا ما يحدث عندما يرتفع مستوى الرجال المكلفين المهمات الكبرى. ينشر فرنسيس الأول المصالحات في كل مكان، ويمتدح الصين الشيوعية قائلاً: “بلد كبير وحكمة دائمة”. الصدور الوسيعة تدرك سعة التكوّن. وتعرف أن الفرد مجرد عبث بشري عندما يحاول التفرد باملاك الله وحريات البشر. وفرنسيس الارجنتيني مثل فرنسيس الاسيزي يؤمن ان نزاع الدين الواحد افظع من تطاحن الأديان. والأمل في لقاء مثل هذا بين السنة والشيعة. الف عام شيء كثير.
(1) الحمار شعار الحزب الديموقراطي.