Site icon IMLebanon

عشرة .. ميّة .. ألف سنة .. مكملين صناعة الحياة وصناعة الموت

 

بقدر ما كان يُنسب لرفيق الحريري من مشاريع وخطط وأعمال وتدبير سياسي، أثناء توليه رئاسة حكومات عدة، وتُستعاد مدحاً أو ذماً، تقديراً أو تبخيساً، تبجيلاً أو تحقيراً، نقداً أو تمجيداً.. غالباً ما يتم السهو عن سمة خاصة به، هي قدرته على الاستمرار في العمل، وبالديناميكية ذاتها، أثناء وجوده خارج السلطة. 

من الواضح أنه استطاع، انطلاقاً من مطلع الثمانينات، تأليف جهاز إداري واستشاري، وشبكة علاقات محلية وإقليمية ودولية، تتداخل فيها الخبرة الإقتصادية والدراية المالية والحنكة الديبلوماسية والأخلاق السياسية الحديثة والبراعة الإدارية.. جهاز يأتلف من مهندسين ومقاولين محترفين ووجهاء محليين وإعلاميين مخضرمين ورجال أعمال طموحين وشباب من ذوي الاختصاصات العلمية المتنوعة ورجال قانون وباحثين بارزين إلخ. كان جهازاً من الصعب حصره طالما أنه ليس جسماً من «موظفين«، بل هو مجرد فكرة ديناميكية تقوم على انتشال لبنان (والإقليم) من دوامة البؤس واللاتنمية وسلسلة الحروب الأهلية والحدودية، والأهم هو استعادة حق اللبنانيين بالتصرف بمصير بلدهم وشؤونه، وملاحقتهم أو إنجازهم للصورة التي يريدون للبنان أن يكونها. صورة السلم والاستقرار والاستقلال والانسجام الوطني والازدهار الاقتصادي. ولم تكن تلك الفكرة بأي حال من الأحوال اختراعاً من رفيق الحريري، إنما هي شاعت بإلحاح في نفوس اللبنانيين التوّاقين لتجاوز سنوات الألم والمحنة وعذابات الحروب المتعاقبة. كانوا منجذبين إلى ما يبعدهم عن تلك الدوامة التي تناسلت منها المآسي الكبرى، ويقطع مع ذاك الماضي الدموي، طامحين إلى وطن يتشبّه بأغانيهم، أو على الأقل شبيه بأي دولة «طبيعية« يحلو العيش فيها.

كان تبني الحريري أو تنكبه لهذا الطموح، أن جعله في وسط تلك الصورة ومحورها. وهذا على الأرجح لم يكن متاحاً لغيره من ساسة لبنانيين. إذ أن مهمة تحسين سعر صرف العملة اللبنانية مثلاً وإنجاز شبكة كهرباء جديدة وجذب استثمارات أجنبية أو إعادة المهجرين إلى قراهم وتصريف الإنتاج الزراعي وبناء المدارس والجامعات وشق الطرق وبناء الجسور وإعادة تأسيس جيش وطني ووضع خطط إعادة إعمار بلد بأكمله وبنية تحتية كاملة ومحاربة البطالة وإنعاش السياحة وردم هوة 15 سنة من التخلف التقني والتكنولوجي مع العصر وتشييد مطارات وموانئ وتدبير إدارة حديثة بل وتكليف اللبنانيين بمعاشرة بعضهم البعض مجدداً وتجاوز عصبياتهم الطائفية والتعالي على ضغائن الماضي والإصرار على التسامح وتحقيق الحد الأدنى من وفاق وطني وتأليف لغة سياسية جديدة مدنية وسلمية، وما لا يعد ولا يُحصى من متطلبات بناء دولة، لم تكن بمتناول سياسيين محليين بالكاد يسيّرون منازعاتهم وصغائرهم في بلد ممزق وواقع تحت «وصاية« سورية قاهرة وبارعة في استثمار الصراعات وتوليدها، وفي رهن لبنان حدوداً ودواخل، شعباً وأرضاً، لسياسات العنف والمقايضات الدموية الإقليمية والدولية. 

ارتضى رفيق الحريري أن يكون في السلطة، رغم المقايضة القاسية التي فرضتها تلك الوصاية ونتائجها الوخيمة يومياً، وكلفتها الشديدة الوطأة على مشروع إعادة البناء واستعادة الدولة، ورغم المهانة الشخصية التي كان يتعرض لها باستمرار، والتي انتهت إلى أن تكون مهانة وطنية قصوى يوم اغتياله. ارتضى ذلك، لأنه بالضبط وجد نفسه «مسؤولاً« عن استمرار تلك الديناميكية التي استولدها اللبنانيون في أنفسهم منذ اللحظات الأولى التي تلت توقف الحروب الداخلية.

ومن هذه المسؤولية، وبسببها، لم يتوقف عمل رفيق الحريري وتأثيره، عندما كان خارج السلطة. فهو من دون كثير جهد منه، شكّل المرجعية الوحيدة لعلاقات لبنان الخارجية، أو كان هو مصدر الثقة الإقتصادية والمالية، أو أنه – بصفته «مهندس« الاتفاق الذي أنهى الحرب – وحده من ينجز التسويات السياسية للمنازعات اليومية، أو كان هو «المقاول« الوحيد الذي يمكنه بناء المنشآت التي يفتقدها البلد المدمر، أو هو وحده من لديه «مشروع« على هذه الضخامة والبساطة في آن: تحسين شروط عيش المواطنين.

ما كان يعترض تلك الديناميكية، كان ببساطة سعياً حثيثاً من التخريب، كان خوفاً شديداً من تحرر لبنان من القبضة المخابراتية السورية و«الحرسية« الإيرانية. «الوصاية«، بهذا المعنى، كانت أكثر وعياً من أغلبيتنا في فهم «سياسة« الحريري ومقاصدها. كانت تدرك أنه يذهب باللبنانيين إلى أكثر من المصالحة بين الطوائف والأحزاب، إلى انتفاء شروط الهيمنة السورية وأسباب الاحتلال الإسرائيلي ومبررات الانقسامات الداخلية ومسوغات وجود الميليشيات المسلحة… صحيح أن مسعى الحريري في هذا الاتجاه لم يكن مضمون النجاح، ودونه الصعوبات العميقة والمتشابكة، لكن الصحيح أيضاً أنه جعل مسعى كهذا حقيقة سياسية، واحتمالاً واقعياً له حيثيات نمو وتوسّع. وعملياً، بات شطر كبير ومتزايد من اللبنانيين يرون في صورة الحريري ذاته وفي سياسته ما يطابق ذاك المسعى وهذا التوق إلى لبنان بلا «أزمة« وبلا «وصاية« وبلا «احتلال«. 

أخطر ما فعله الحريري هو هذا، فبعد عقدين تقريباً من مصادرة السياسة كما لو أنها خفايا وأسرار وأقدار تقع على البشر لا رادَّ لها، أو كأنها شعارات أيديولوجية ومنصة حروب وعداوات أبدية وحزازات دائمة وسطو مستمر على الدولة وتناتش لمغانمها وتوزيع أسلاب وامتيازات، ومحاصصة لفتات المكاسب المسلوبة من دولة متهالكة.. استعادت السياسة معناها بوصفها «شأناً عاماً« ومصالح مواطنين وإدارة لعلاقات الأفراد والمجموعات وصوناً للحقوق وتنمية وتعليماً وطبابة وعمراناً وأمناً.. وهو ما دفع قسماً متعاظماً من اللبنانيين أن يستأنفوا صلة بالسياسة، أن يشعروا أن بيدهم مصيرهم، أن المطالبة جهراً بما يطمحون إليه والعمل من أجله ليس أمراً طوباوياً أو ميؤوساً منه. 

يمكن رؤية هذا التحول الواضح في علاقة اللبنانيين بعضهم بالبعض الآخر من جهة، وعلاقتهم بالسياسة من جهة أخرى، في تلك الديناميكية المؤثرة للهيئات الاقتصادية وقد استعادت سطوتها ودورها، كما في الحركات المطلبية لمختلف النقابات، وأيضاً في انبعاث الحركة الطلابية مجدداً، بالإضافة إلى ولادة تكتلات جديدة من أصحاب المهن الحرة، والمزارعين والتجار والصناعيين ورجال الأعمال، بل حتى عودة الحياة إلى الأندية الرياضية مثلاً والحركة الكشفية مثالاً لا حصراً. في تلك المرحلة، ولأول مرة بعد الحرب، عاد «المجتمع المدني« ليكون شريكاً في تقرير وجهة السياسة وبرنامجها ولغتها. 

لم يكن الحريري صانعاً لمعجزات من هذا القبيل، لكن الدور الذي ارتضاه لنفسه وظنه واجباً عليه، ثم ما أوكل اللبنانيون إليه من مهام وعقدوا عليه آمالاً كثيرة، بعضها مبالغ فيه وسحري وعجائبي، تشي بمقدار رغباتهم العارمة أكثر مما تشي به طاقته وقدراته. وهذا، مجدداً أبرز أثر الحريري في تحويل تلك «الرغبات« إلى خطط وأفكار علنية وسياسة.

في المقابل، كانت «الوصاية« وطقمها القذر (وورثة الحروب وقادتها وزعرانها)، تقسر السياسة على الاستيلاء والنفوذ واستنفار العصبيات، واحتراف السلاح واستعمالاته، وعلى التلويح بالعنف وإنزاله بالمناوئين، والابتزاز والمكائد الأخلاقية وافتعال الفضائح وترويج البذاءة وما لا يُحصى من أساليب ملتوية وتآمرية وتدبيج التهم والتخوين وتشويه السمعة.. ما فرض انكفاء الأغلبية الساحقة من السكان عن السياسة وعن الدولة، وعن تداول الرأي والانتخاب والتعبير وتأليف الجمعيات والأحزاب، والقنوع بالصمت واللامبالاة، وصولاً إلى اليأس والهجرة. 

كانت ذروة الصدام بين هاتين الوجهتين المصيريتين، وخاتمته المأسوية يوم 14 شباط 2005 المشهود. كان على أبطال الوصاية ورجال الممانعة أن ينقذوا أنفسهم، أن يدافعوا عن «نظامهم«، وأن يحفظوا لبنان رهينتهم المستسلمة، وشعبه رعيتهم الخانعة والصامتة. كانوا قد أدركوا أن خطر تحرر لبنان لأول مرة منذ العام 1975 (بل ومنذ العام 1969)، بات وشيكاً. كان قرار القتل كما صار معروفاً ليس اغتيالاً لرفيق الحريري وحسب، بل هو قضاء مبرم ونهائي على تلك الديناميكية التي أطلقها اللبنانيون غداة انخراطهم في مشروع السلم والإعمار وبناء الدولة المستقلة. وما من برهان على قوة الصلة بين «سياسة« الحريري و«برنامج« اللبنانيين، أشد من رد فعل اللبنانيين بعد الاغتيال.. إذ هم تلقائياً رأوا هدف الجريمة ومقاصدها.

ولأن لبنان ليس جزيرة، وبالعكس هو أكثر من اللازم لصيق بمحيطه ومتصل بجواره، كان عقد التسعينات ومطلع الألفية الثالثة عبارة عن سنوات لاهثة في النمو والإعمار. ورغم الآثار الكارثية لسنوات الحرب، كانت الديناميكية اللبنانية تسابق الزمن وتعوّض ما فات وتتصل بالعالم اقتصاداً وتكنولوجيا وثقافة وسياحة، وتستعيد قدرات تنافسية في الخدمات والتجارة والاستثمار، ليسجل لبنان نسب نمو عالية سنوياً. وبالتزامن مع هذا الحال، ورغم الحروب الإسرائيلية (1993، 1996، 2000)، كان لبنان يسترد عافيته، ويكتسب النظام السياسي الوليد بعضاً من مناعة الديموقراطية وأعرافها، بفضل تجدد المجتمع المدني وتمسكه بإرث «التجربة اللبنانية«، بل إن ضغط «الوصاية« ونزعتها البوليسية القمعية، وما نتج عنها من تعسف فادح طال خصوصاً رموز المعارضة المسيحية (نفي أمين الجميل وميشال عون وسجن سمير جعجع)، أجج كراهية للنظام السوري وغذى نزعة استقلالية لبنانية جديدة، خصوصاً مع تفاقم نذالة حلفاء ذاك النظام ووضاعتهم وفسادهم.

كان هذا المشهد، في لحظة انهيار العراق وانحطاط أحواله، لكن أيضاً في لحظة «فشل« الدولة السورية المحنطة و«الأبدية«. كان السوريون الذين لم يعيشوا حرباً أهلية مثلاً، يشاهدون يومياً تلك الديناميكية اللبنانية ويعايشون ما ينجزه هذا البلد الصغير. كانت خيبتهم تتراكم بعد السنوات الكاذبة للرئيس الجديد بشار الأسد، الذي أطلق وعوداً، يمكن القول أنها تجاري بعضاً مما هو مشهود في لبنان على الأقل، ولم يكن في وارد تنفيذها.

هنا بالضبط مكمن الحقد الشخصي على رفيق الحريري. كان «يُفسد« على النظام السوري خنوع شعبه وصمته، ولو من دون قصد. كان يشكل مثالاً مرغوباً كرجل دولة وسياسة من قبل المجتمعات القريبة من لبنان. هذا سبب كاف لأن يكون عدواً. إذ رأى فيه «حلف الممانعة« خطراً مباشراً على حال السبات والصمت والخوف والإفقار الذي يعيش في كنفه الشعب السوري، الذي كان يتابع مثلاً «معركة التمديد« للرئيس إميل لحود بترقب ما خبره هو في التمديد الأبدي لآل الأسد، متخوفاً على لبنان من المصير نفسه. وهذا كان سبباً إضافياً لكي يرى الشعب السوري في رفيق الحريري و«المعارضة« اللبنانية بعضاً من طموحاته في الحرية.

اليوم، بعد عشر سنوات على الجريمة، تتوضح أكثر مقاصد اغتيال رفيق الحريري بوصفها قتلاً متعمداً للديناميكية اللبنانية التي كان هو «مهندسها«. ويجب أن لا ننسى أنه اغتيل وهو لم يكن في السلطة. وهنا المفارقة. رجل خارج الحكم، لكنه يمثل قوة وطاقة البلد واندفاعته نحو ما لا تريده «الوصاية« وأتباعها وحلفاؤها. يكفي النظر إلى أحوال لبنان وسوريا في السنوات العشر الماضية لنتبصر في الفارق بين «صناعة الحياة« و«صناعة الموت«.

يجوز في المستقبل، عند كتابة التاريخ أن نضع تجربة رفيق الحريري في ميزان النقد والفحص، ومعاينة الأخطاء والإنجازات. بل يجوز أيضاً أن نجد أسباباً في الاعتراض على قرارات اتخذها، كمثل تلك المقايضة الأليمة التي اقتضت المساكنة بين «الوصاية« ومشروع «إعادة الإعمار«، أو القبول مرغماً بواقع تسليم قرار الحرب والسلم لميليشيا «حزب الله«..إلخ، وربما كان يحلو لنا (وشخصياً) أن نساجله في سياساته الإجتماعية وفي أساليبه لإصلاح الدولة ومؤسساتها. لكن ما كان هذا متاحاً إلا مع الحريري، ولم يكن يكتسب أي معنى مع غيره. ليس لأنه «سلطة« بل لأنه المشروع «الشرعي« الوحيد الذي ارتضيناه مناسباً لصورة لبنان الذي تخيلناه، وأملنا أن نعيشه. هذا بالضبط ما شعر به اللبنانيون يوم 14 شباط 2005.