كلام في السياسة |
لم تعد مزحة مسألة «توطين» النازحين في لبنان. علماً أن التميز منذ البداية واجب، لجهة أن «التوطين» المقصود ليس آلية دستورية يفترض أن تعتمدها دولة لبنانية ما. ولا هو اقتراح قانون ولا مشروعاً مماثلاً من حكومة مصلحة غير لبنانية.
المطروح هو بكل بساطة: أي أفق ومصير لنحو مليون ونصف مليون نازح سوري باتوا على الأراضي اللبنانية منذ أعوام؟ وأي مقاربة لبنانية ممكنة، لمواجهة تلك القضية الوجودية، وللتعاطي مع اللامبالاة الدولية الظاهرة حيال الملف. لا بل أي موقف لبناني جامع إزاء مؤشرات دولية مريبة ومقلقة في حدها الأدنى؟
ما يصدم في المسألة، أنه كلما خرج صوت لبناني، رسمي أو شعبي، يثير في وجه العالم والمجتمع والشرعية الدوليين، مأساة النزوح السوري إلى لبنان ومآله، وُجدت أصوات لبنانية تتحامل عليه وتحاول إسكاته. وكأنها مهجوسة بطمس القضية وإبعادها عن البحث والتشريح والتدقيق. فالقضية ليست مطروحة في وجه أي فريق لبناني. بل يفترض أن تكون موضع إجماع الأفرقاء اللبنانيين كافة، في وجه المبيّت للبنان وسوريا دولياً. فعلى هوامش المؤتمرات الدولية المعنية بالحرب السورية، سمع كثيرون، من لبنانيين وغير لبنانيين، كلاماً هامساً عن أن للمجتمع الدولي أولويتين اثنتين لا غير، حول موضوع النازحين السوريين خارج بلادهم عموماً، والمقيمين على الأراضي اللبنانية خصوصاً: أولاً أن يظل هؤلاء حيث هم. فلا يضافون إلى موجات الهجرة الجماعية صوب الغرب. وثانياً، أن يظل هؤلاء خارج سوريا، حتى يتم إنجاز الاتفاق على تسوية القضية السورية. مع ما يخطط لهذه التسوية أن تتضمنه من عمليات انتخابية مختلفة المستويات. بما يسمح للنازحين بأن يقترعوا خارج سوريا لا داخلها. على خلفية اعتقاد بعض المعنيين بطبخ التسوية السورية أن أصوات هؤلاء ستكون قادرة على ترجيح أي عملية اقتراع مقبلة. أياً كانت الجهة المتهمة بالضغط، وأياً كان المخطط للتلاعب بأصوات هؤلاء، في الحالتين تظل النتيجة هي ذاتها: أن بقاء النازحين خارج سوريا هو الهدف… وإذا أضفنا إلى هذه الواقعة الإرهاصات البادية حول شكل الحل المطلوب، وصيغة النظام السوري العتيد، بين توحيد أو تقسيم أو فدرلة أو سواها من أشكال دستورية مركبة، عندها يصير موضوع النازحين خارج سوريا ورقة أساسية في إعادة رسم المشهد السوري، في السياسة والجغرافيا والديمغرافيا.
أما التطور الخطير الذي أضافته ورقة المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، إلى هذه الإشكالية، فيبدو عنصر إثبات كاف للقلق. ففي بيان مؤتمر فيينا حول تلك الأزمة في 13 تشرين الثاني الماضي، توقف المشاركون ملياً عند صياغة مسودته، التي تحدثت عن «عودة طوعية» للنازحين. تدخل وفد لبنان مناقشاً محاججاً ومعانداً. حتى اقتنع جون كيري ببسمة قاسية، معلناً قبوله بالصياغة اللبنانية المقترحة، والقول بعودة «آمنة». علماً أن الفارق بين المفردتين كبير جداً قانوناً وواقعاً. رغم ذلك، خرج دي ميستورا قبل أيام بورقته إلى مؤتمر جنيف، بصيغة تحايلية على ما أقر دولياً. أسقط ثابتة العودة الآمنة فعلياً. وعاد إلى المقولة المرفوضة مواربة، عبر الفقرة 11 من ورقته، بالقول بعودة النازحين «الذين يرغبون بذلك». ما يطرح السؤال الحتمي: وماذا عن الذين لا يرغبون في تلك العودة؟
جدال يعيد لبنان ودول المنطقة إلى السجال الأممي نفسه قبل عقود حول اللاجئين الفلسطينيين. يوم أقرت الجمعية العمومية للأمم المتحدة قرارها رقم 194، والذي أقر «وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم. ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم». استذكار يحمل بعد نحو 70 عاماً من كارثة اغتصاب فلسطين وتهجير شعبها، أكثر من علامة قلق وخطر. قلق وخطر يتزايدان مع تبيان وجهة كل المساعدات الدولية المرتبطة بقضية النزوح. فهي معدّة في قسمها الأعظم، لتتخطى بنية الدولة، ولتذهب مباشرة إلى بلديات الوحدات الإدارية التي تستضيف النازحين (ترى لهذا الإصرار الدولي على إجراء الانتخابات البلدية دون النيابية؟!) ، في مجالي التعليم والعمل. محاولة أخرى مقنّعة للرشوة ووسيلة مستترة للدمج والاستيعاب، خصوصاً في ظل ما بدأ يظهر من فساد كبير في هذين المجالين. على طريقة غض النظر عن انتفاع حفنة من المحليين ببضعة ملايين الدولارات، من أجل «توطين» نحو مليون إنسان سوري، يراد لهم أن يفقدوا وطنهم نهائياً.
في هذه الأثناء، تشهد جنيف مؤتمراً دولياً حاشداً حول توطين السوريين في بلدان ثالثة. والقدرة المطروحة من قبل «الدول الزبائن» المشاركة، لا تتعدى عشرات الآلاف، يتم اختيارهم وفق معايير تمييزية معروفة ومكشوفة. ماذا عن باقي الملايين؟ سؤال يظل بلا جواب.
أكثر المقاربات المطروحة عقماً وإلهاء حيال الأمر، مقولة ظهرت في الأيام الماضية، بأن انتخاب رئيس للجمهورية الآن وفوراً وكيفما كان، هو السبيل الحاسم لمنع توطين كهذا. لكن، عندما جاء اللاجئون الفلسطينيون إلى لبنان، هل كان ثمة رئيس للجمهورية في لبنان أم لا؟ وحين سقطت السيادة مع «ملكارت» و»القاهرة»، هل كان شغور رئاسي في بيروت؟ وعندما دخل النازحون السوريون على مدى الأعوام الماضية، وبلغوا ذروة أرقامهم قبل أيار 2014، هل كان هناك شخص مسمى رئيساً للجمهورية أو لا؟
يقول المنطق السليم ان المشكلة في مكان آخر. تماماً كما حلها. لمن يملك المنطق ويجرؤ على قول الحق.