كما أن لإسرائيل مصلحة في توجيه رسائل تهديد للبنان، قد تكون هناك مصلحة إيرانية في التصعيد حيث لبنان هو ساحة إيران المباشرة. والمصلحة تقتضي التصعيد لتجميع الأوراق قبل استئناف الاتصالات الدولية معها
بات السؤال اليومي في لبنان: هل تقع الحرب أم لا؟ السؤال الذي لا يمكن لأيّ كان الإجابة عنه بنعم أو لا، وسط كثافة القراءات من كلا الجانبين، يطرح في المقابل جوّاً عاماً في لبنان يتعلّق باحتمالات تنفيذ إسرائيل تحذيراتها التي تنقل عبر الموفدين الغربيين، وآخرهم الديبلوماسي الأميركي عاموس هوكشتين. وإذا كانت المقاربات حتى الآن تتحدّث عن إسرائيل كطرف وحيد معنيّ بالتهديد، فإن وجهة أخرى تتناول كذلك احتمالات ترافق الدور الإيراني في التصعيد، الذي يبدو في الآونة الأخيرة أكثر بروزاً.منذ تشرين الأول الفائت، ودخول حزب الله على خط المساندة لحرب غزة، ومع توالي التهديد المتكرر للبنان من جانب إسرائيل، كان السقف العسكري والسياسي الذي تتعامل معه الدول التي تنقل رسائل الى لبنان بأن لا مصلحة لإيران بتوسيع إطار الحرب. وكان حزب الله حريصاً على تكرار موقفه من المساندة لا فتح جبهة حرب مستقلة. ومع مرور الأشهر، ورغم عمليات التصعيد والقصف المتبادل، ظلّت إيران ومعها حزب الله على حرصهما بإظهار عدم الرغبة في توسع الحرب، رغم الحرص المقابل على إظهار الاستعداد لها.
في هذه المرحلة، كانت إيران حاضرة على المستوى الدولي، سواء في ما يتعلق بحماس أو في ما يتعلق لبنانياً بحزب الله ودوره في معركة الإسناد. ما تغيّر منذ أن قصفت إيران إسرائيل، ساهم في فرض واقع جديد دولياً، أميركياً وأوروبياً. التدخل الأميركي والأوروبي المشترك ضد القصف الإيراني كان الرسالة الأولى لطهران على قاعدة وضع حدود لها في التدخل في المنطقة. بعد أسابيع قليلة من الرسالة الدولية، سقطت طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي وانشغلت طهران بترتيبات تحضير الرئاسة بعد وفاته.
منذ ذلك الحين، لم تعد إيران في الصف الأول دولياً. غيابها عن المشهد الدولي لا يتعلق فقط بترتيبات انتخابات الرئاسة. فالجوّ العام في المنطقة لم يعطِ طهران فرصة التقدم في الوقت الراهن، والمفاوضات عبر قطر وفي عُمان وفي أروقة الأمم المتحدة باتت غائبة عن كل المتداول الذي كان يشغل الإطار السياسي في دول المنطقة. كما غاب الدور الإيراني أيضاً في المفاوضات التي جرت في الأسابيع الأخيرة حول صفقة وقف الحرب وتبادل الأسرى. ومع انشغال إيران بالتحضير لانتخاباتها الرئاسية، تنتظر واشنطن وأوروبا هوية الرئيس الجديد واتجاهه، لتبني عليه الصورة المستقبلية سواء في ما يتعلق بالاتفاق النووي، أو الحضور الإيراني في المنطقة. وإذا كانت واشنطن تدخل مباشرة على خط هذا الحضور في اليمن، فإن في لبنان شريكاً أساسياً، حيث لإيران رعاية مباشرة لحزب الله. إذ أصبح الدور الإسرائيلي أكثر تأثيراً من خلال العمليات الجنوبية والتهديدات المتواصلة بتوسيع رقعة الحرب. لكن إيران تريد أن تكون حاضرة في المشهد المتعلق بلبنان، حيث تحاول الدول المعنية إبعادها. وهي تعمل قبل الوصول الى مرحلة انكفاء الولايات المتحدة عن المنطقة والانشغال بالانتخابات الرئاسية، على استعادة حضورها الدولي، وأن تبقي دورها حيوياً كطرف رئيسي في كل ما يتعلق بأيّ ترتيبات يمكن العمل عليها في لبنان، في الصراع مع إسرائيل أو إخراج سياسي لأزمته.
لذا، قد يكون من مصلحة الطرفين رفع الصوت حالياً في شأن توسيع دائرة الصراع في لبنان. ففي الوقت ذاته، بدأت إسرائيل تمارس ضغطاً وتصعيداً وتهديداً متدرّجاً لم تستطع واشنطن حتى الساعة كبحه تماماً، الى حدّ التساؤل عمّا إذا كانت لها مصلحة فعلية في تطويقه قبل نضوج الوضع الإيراني رئاسياً ومعرفة اتجاهه. وما يجري في واشنطن، بينها وبين تل أبيب، حول وقف النار في غزة والعمليات في رفح ووقف التهديد ضد لبنان، لم يصل بعد الى مرحلة انكفاء إسرائيل عن إرسال تحذيراتها، لأن من مصلحة إسرائيل على كل المستويات أن توسع دائرة تهديداتها، وأن تنتقل الى مرحلة أكثر جدية. وفي الوقت نفسه، تعرف إسرائيل أيضاً أن طهران قد تكون أمام مفترق إعادة الاتصالات، وهي تريد أن تعرف سلفاً ثمن أيّ ترتيب يتمّ العمل عليه حين تستأنف الاتصالات الدولية معها. لذا تضاعف من تشددها مع الولايات المتحدة حتى لا تفرّط بأيّ ثمن من الأثمان التي تريدها إسرائيل، وضد إيران وحزب الله في وقت واحد.
عند أيّ ترتيب من هذا النوع الذي قد يحصل في لحظة تسوية لها أبعادها بين واشنطن وإيران، يتوقف مسار التحذير من الحرب والتلويح بوقوعها من الجانبين، ويمكن حينها الكلام في لبنان عن الملف الرئاسي. وهذا له وقت آخر حتى اليوم.