منذ خريف 2015، تاريخ إعلان الرئيس سعد الحريري مبادرته الرئاسية القاضية بترشيح رئيس تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، والمواجهات المسيحية مع بعض المكوّنات الإسلامية التي تفرّدت بحكم لبنان بعد «إتفاق الطائف» تتنقل، حيث تحصل فجأة بلا أيّ مقدّمات، وما إن تبرد جبهة معيّنة حتى تشتعل جبهة أخرى.
تتّخذ المواجهات أشكالاً متعددة، وتُعتبر الحقبة الممتدة من 2005 الى 2015 حقبة تحالف المسيحيين مع المحاور؛ فـ«القوات اللبنانية» وحلفاؤها المسيحيون كانوا على تفاهم مع المكوّنَين السنّي-الدرزي الممثّل بتيار «المستقبل» والحزب التقدّمي الإشتراكي، في وقت تفاهم «التيار الوطني الحرّ» مع المكوّن الشيعي عبر ورقة التفاهم مع «حزب الله»، إلى أن حصلت مبادرة ترشيح فرنجية لتنهي سياسة المحاور و8 و14 آذار، وتفتح اللعبة السياسية على احتمالات جديدة.
بدأت المواجهة المسيحية مع المكوّن السنّي أوّلاً، من ثمّ مع الشيعة قبل إنتخاب عون وبعد إنتخابه بقليل، ولتشتعل فجأة مواجهة مع المكوّن الدرزي.
وهذه المواجهات المتفرّقة هي أكبر من تقاتل سياسي وأصغر من صدام مذهبي، فهي وإن كانت ترتدي اللباس الطائفي غير أنها تأتي في سياق تحديد الأحجام داخل النظام اللبناني، وفي العمق تُعتبر نزاعاً على دور كلّ طائفة في تكوين لبنان الجديد.
البيتُ الداخلي
لم يكن في إمكان المسيحيين الدخول في أيّ مواجهة من دون ترتيب بيتهم الداخلي ورصّ الصفوف، وهذا لا يعني إبرام التحالفات السياسية فقط، بل القضاء على محاولة زرع بذور الشقاق المذهبي بينهم، وهذا الأمر ساعدت فيه الكنائس المشرقية بأجمعها بعدما إعترفت بدور الموارنة في قيادة المسيحية المشرقية عبر تصريحات البطاركة على اختلاف مذاهبهم، والذين طالبوهم بلعب هذا الدور القيادي أيضاً.
قبل توقيع «إتفاق الطائف» كانت الهجمة شرسة على «المارونيّة السياسية»، فالموارنة إتُهموا حينها بأنهم «يأكلون البيضة وقشرتها»، ولذلك كان الإنقسام المذهبي منخفضاً عند المسلمين، والنزاع اتّخذ طابع مسلم – مسيحي، لا بل كان بعض المذاهب المسيحية ناقماً على الموارنة، ولجأ بعضهم الى الأحزاب القومية والعروبية واليسارية لمواجهتهم.
لكن الوضع إختلف حالياً، فالمسلمون منقسمون مذهبياً، فيما تغيب النعرة المذهبية عند المسيحيين. الحروب السنّية – الشيعية في أوجها، والدروز خائفون على وجودهم، وهذه المذاهب تنتظر بعضها عند «المفترق».
في المقابل فإنّ الوحدة السياسيّة المسيحية ساهمت في تقوية الموقف، فالأحزاب المسيحية والشخصيات تلعب على مساحة الطائفة لا المذهب، وبالتالي فإنّ المسيحيين دخلوا في اشتباكات مع المذاهب الإسلامية كلّ على حدة، الى حدّ وصف البعض هذه المواجهات بأنها «استفراد» بكلّ مذهب، لأنهم لو دخلوا في مواجهة شاملة مع المسلمين لكانوا خسروا حتماً بسبب إختلال الميزان، في حين أنّ كلّ مذهب إسلامي كان «يفرح» لأيّ مواجهة مسيحية تحصل مع خصمه.
النزاعُ مع السنّة
سُجّلت أولى الإشكالات على دور كلّ فريق داخل التركيبة اللبنانية مع المكوّن السنّي المُمَثل بتيار «المستقبل»، فقدّ شكّل ترشيح الحريري لفرنجية بالطريقة التي أتى بها ومن دون علم حلفائه المسيحيين صدمةً قوية أدّت الى ردة فعل أقوى، وساهمت بنحو أو آخر في زيادة التقارب بين «التيار الوطني الحرّ» و«القوّات اللبنانية» ومن ثمّ ترشيح «القوات» لعون ناهيةً بذلك مرحلة «السمنة والعسل» التي عاشها مسيحيّو «14 آذار» و«المستقبل».
شمّر المسيحيون في تلك المرحلة عن سواعدهم، وشهدت الساحة السياسية مشادّات و»كسر جرّة» بين الحلفاء. إستُحضرت مراحل الصدام المسيحي- السنّي السابقة، وفجأة إستذكر المسيحيون أنّ السنّة لم يكونوا راضين على لبنان الكبير عام 1920 وإعتبروه خطأً تاريخياً فصلهم عن محيطهم العربي، في حين أظهر المسيحيون ندماً على فترة 1943 التي التقوا فيها مع السنّة لإخراج الإنتداب الفرنسي.
وإستمرّ نبش التاريخ وصولاً الى ثورة 1958 وتحالف السنّة مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، كذلك، إعتبار المكوّن السنّي أنه «مسؤول» عن الحرب الأهلية نتيجة تبنّيه القضية الفلسطينية ودفاعه عنها ومقاتلته معها واستخدامه البندقيّة الفلسطينية لقلب النظام، إضافة الى إستئثاره بالسلطة بعد «إتفاق الطائف» وإخراج المسيحيين من المعادلة وسجن رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ونفي عون، ووقوفه أخيراً في وجه وصول عون الى الرئاسة وعدم الموافقة على قانون انتخاب يعيد حقوق المسيحيين.
لكن سرعان ما تبدّدت هذه الإشكاليات لحظة موافقة الحريري على تبنّي ترشيح عون، فعاد الجميع الى التذكير بمراحل الإلتقاء الماضية ولعلّ أبرزها ميثاق 1943 وتفاهم الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح.
الشيعة
شكّلت العودة الى إستعمال مصطلح ميثاق 43 في المرحلة الأخيرة «نقزة» عند الشيعة، على رغم أنّ تاريخ لبنان الكبير لم يشهد أيّ مواجهة مسيحية – شيعية مباشرة، حتى إنّ قسماً من الشيعة كان ينتمي فكرياً الى «المارونية السياسية»، وكذلك فإنّ النائب الراحل كاظم الخليل العضو في كتلة الرئيس كميل شمعون هو من أبرز مهندسي «الحلف الثلاثي» الذي فاز في انتخابات 1968 بفضل تحالف زعماء الموارنة الثلاثة: شمعون والشيخ بيار الجميل والعميد ريمون اده في سابقة نادرة لم تتكرّر على الساحة المارونية.
تصاعد حجم الشيعة بعد بروز نجم «حزب الله»، وقد يكون 6 شباط 2006 تاريخاً مفصليّاً بسبب توقيع «وثيقة التفاهم» بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحرّ».
وعلى رغم كلّ المطبّات، إلّا أنّ تلك الوثيقة تحوّلت ما يشبه الزواج الماروني إلى أن أتت انتخابات رئاسة الجمهورية، وساد التوتر بين البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي ورئيس مجلس النوّاب نبيه برّي على خلفيّة تمسّك برّي بـ«السلّة»، وإرتفعت حدّة التوتر خصوصاً بعد بثّ أخبار مفادها أنّ الحزب لا يريد عون رئيساً، فاضطر السيّد حسن نصرالله الى شرح الموقف ومخاطبة قواعد «التيار» محذِّراً من زرع الفتنة بين الطرفين.
إنتُخب عون، لكنّ السجالات إستمرت على خلفية القول إنّ رئيس مجلس النوّاب يحقّ له مشاركة رئيسَي الجمهورية ومجلس الوزراء في تأليف الحكومة، ومن ثمّ تمسّك المكوّن الشيعي بوزارة المال لأنّ توقيعها هو التوقيع الرابع في الجمهورية بعد توقيع الوزير المختص ورئيسَي الجمهورية والحكومة.
كلّ تلك التوترات زالت نسبياً بعد السير في التسوية الرئاسية والحكومية، وغياب الإحتدام المسيحي- الشيعي على قانون الإنتخاب على رغم مطالبة قسم كبير من المسيحيين بتسليم «السلاح غير الشرعي».
الدروز
يكتب تاريخ لبنان بالحبر والدم الدرزي والماروني، ولكي نستطيع التكلّم عن تلك الشراكة والعلاقة نحتاج الى مطوّلات، فمن إصرار الموارنة الى اصطحاب الدروز معهم الى الفاتيكان في القرن الخامس عشر مروراً بإمارة الجبل ودعم الموارنة لهم وصولاً الى مجازر 1841 و1860 كلها تواريخ طبعت لبنان ما قبل الكبير.
ويشبه الوضعُ الدرزي الحالي مرحلة ما بعد الاستقلال حين أحسّ الدروز أنهم مستبعدون بعد الاتفاق المسيحي- السنّي وعلى هامش اللعبة، فحاول الزعيم الإشتراكي كمال جنبلاط الذي أُسقط في انتخابات 1957 الثورة، من ثمّ استعمل السلاح الفلسطيني لهزيمة «المارونية السياسية»، واستغلّ النائب وليد جنبلاط الدعم السوري وغياب الزعماء المسيحيين لتضخيم حجمه، الى أن اتى اتفاق «التيار» و«القوات»، فحاول استيعابه، لكنه رأى أنّ «بيضة القبان» التي كان يمثلها كُسِرَت وأنه مطوَّق ولا تأثير له في اللعبة بعد «اتفاق» المسيحيين والسنّة والشيعة، فتنازل عن حقائب خدماتية ومن ثمّ «زُرِكَ» في قانون الانتخاب فبات، يهدّد بالويل والثبور وعظائم الأمور.
قد تكون المواجهة المسيحية ـ الدرزية من الأسهل، لكن لا نية مارونية للانقضاض على جنبلاط الذي إنتخب عون، ويظهر ذلك في الاستثناءات التي تركها «قانون باسيل» من خلال ترك معظم مقاعد الدروز على القضاء والأكثري، إلّا أنّ المرور في تلك المواجهة كان أساسياً لتثبيت الأحجام والأوزان داخل النظام.
الخلاصة
بعد كلّ مواجهة داخلية يعود الجميع الى صَوْغ تفاهمات داخلية تحت شعار: «لا غالب ولا مغلوب»، خصوصاً أنّ المسلمين فهموا أنه لا يمكن كسر المكوّن المسيحي أو إلغاؤه لأنه يضمن التنوّع ويعطي لبنان ميزته عن دول المنطقة والعالم، وهذه الثابتة قالها جنبلاط أمس بنحو غير مباشر حين دعا الى إلغاء الطائفية وانتخاب مجلس نواب خارج القيد الطائفي مع إبقاء رئاسة الجمهورية للمسيحيين مع العلم أن هذا الأمر استعمل سابقًا لتخويف المسيحيين.
وفي المحصلة، فإنّ علاقة المسيحيين مع بقية الأطراف يجب أن تقوم على الشراكة، لأنّ المكوّن السنّي يجب أن يعلم أنّ «إتفاق الطائف» انتزع الصلاحيات من رئيس الجمهورية ووضعها في مجلس الوزراء مجتمعاً وليس في يد رئيسه، كما أنّ الشيعي ومهما ازداد حجمه فلا يمكنه التفرّد بالحكم لئلّا يكرّر أخطاء غيره عندما كان هو من «المحرومين»، وكذلك يجب أن يطمئنّ الدرزي الى أنّ الخطر ليس من المكوّن المسيحي بل في جنوح الدولة وإنهيارها لأنها تحفظ حقوق الجميع وحيدة، وليس الأشخاص هم مَن يبقونهم في دائرة الحكم.