يتخبط الشرق الأوسط والعالم اليوم في ذيول ثلاث محاولات كبرى للانقلاب. محاولات قادها ثلاثة رجال يشربون من ينابيع مختلفة وقواميس متباعدة. والثلاثة هم فلاديمير بوتين وعلي خامنئي وأبو بكر البغدادي.
لم تكن إطلالة البغدادي من الموصل قبل عامين حدثاً عادياً. كانت محاولة انقلاب كبرى. رأى العالم ما لم يكن يتوقع. مزق تنظيم «داعش» شباك دولتين هما العراق وسورية وسجل هدفاً مروعاً تعذر على أسامة بن لادن تحقيق مثيل له.
راقب العالم مشدوهاً ممارسات وحشية لم يعرفها من قبل. رؤوس مقطوعة وسبايا ولغة تخاطب مستعارة من زمن الكهوف. أطلق «داعش» نهراً من الانتحاريين وأدمى عواصم قريبة وبعيدة.
لا تستطيع المنطقة التعايش مع دولة «داعش». ولا يستطيع العالم احتمال استمرارها. هذا الانقلاب الرهيب أكبر من القدرة على الاحتمال. لهذا نرى ما نراه. طائرات من جنسيات مختلفة تحوم في أجواء العراق وسورية وتنقض على أهدافها.
يرتكب الإرهاب خطأ قاتلاً حين يصير له عنوان ثابت ومعروف. قوة الإرهاب هي أن يبقى شبحاً بلا عنوان. لهذا سينتهي هذا الانقلاب مهما استلزم من الوقت والتكاليف. قصته بأكملها عملية انتحارية تشبه أولئك الذين يرسلهم وينفجرون وتتطاير أشلاؤهم.
لم يكن الشرق الأوسط يرفل في السلام قبل إطلالة «داعش». هز «الربيع العربي» ركائز استقراره. استيلاء «الإخوان» على قطار الربيع أطلق كل أنواع المخاوف. وحين هدد الربيع الحلقة السورية في «محور الممانعة» هبت إيران لحماية نتائج الانقلاب التي استثمرت فيه بسخاء استثنائي.
وفرت المغامرة الأميركية في العراق فرصة ذهبية لإيران لإطلاق الانقلاب الكبير الذي كانت تحلم به. وكانت سورية شريكة في هذا الانقلاب حين اتفقت طهران ودمشق على إحباط الغزو ومنع قيام حكومة مستقرة وموالية للغرب في بغداد. ستتفق العاصمتان لاحقاً على منع قيام حكومة مستقرة وصديقة للغرب في لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. الخروج من محور الممانعة ممنوع.
تعرض الانقلاب الإيراني الكبير لامتحان عسير لدى اندلاع الأحداث في سورية. الحلقة السورية في محور الممانعة لا يمكن الاستغناء عنها. من دون سورية لا تستطيع إيران الاحتفاظ بورقة المرابطة على شاطئ المتوسط. ومن دونها تسقط استراتيجية الصواريخ التي هدفت إلى تحجيم الأهمية الاستراتيجية لإسرائيل. ومن دون سورية الممانعة يصبح «حزب الله» لاعباً محلياً محروماً من عمقه الاستراتيجي الذي يوفر له ممراً آمنا للصواريخ ويعطيه فرصة التحول لاعباً إقليمياً كما نراه الآن. لهذا تعاملت إيران مع مشروع إطاحة نظام الرئيس بشار الأسد بوصفه مشروعاً لإحباط انقلابها الكبير على التوازنات والأدوار التاريخية في المنطقة.
في هذا الوقت كان العالم يشهد علامات انقلاب تدريجي بارع يقوده رجل اسمه فلاديمير بوتين أصابه انهيار الاتحاد السوفياتي بجرح في قلبه. إنه انقلاب على العالم الذي ولد من ركام بلاد لينين. عالم القوة العظمى الوحيدة. وتحريك حلف الأطلسي بيادقه لتطويق الاتحاد الروسي عبر الثورات الملونة والدرع الصاروخية.
أظهر القيصر براعة غير عادية. أستاذ في التضليل. كمن وانتظر واستكشف وناور قبل أن يسجل «هدفاً ملعوباً» في مرمى الغرب. شكل وجود باراك أوباما فرصة سانحة له لإطلاق الانقلاب. لم يتردد في الوقت المناسب في هز الشباك الأوروبية حتى ولو كلفه عدوانه على أوكرانيا عقوبات.
ثم اكتشف العالم أن الكولونيل الوافد من مدرسة الـ «كي جي بي» يحمل مشروع ثأر. ومع التدخل العسكري في سورية صار الشرق الأوسط من المسارح الرئيسية للانقلاب الروسي. اللافت هو التقاء الانقلابات الثلاثة على الأرض السورية المضرجة بالدم.
وزعت الانقلابات مناخات مسمومة في الشرق الأوسط والعالم. الشرق الأوسط يغص بالحروب واللاجئين والكيانات الخائفة والانتحاريين. استيقظت الفتنة السنية – الشيعية. واستيقظ الأكراد. واستيقظت المخاوف القديمة بين مكونات الشرق الأوسط ومكونات الدول نفسها.
أيقظ الانقلاب الروسي مخاوف حلف الأطلسي. مجرد انعقاد قمته الأخيرة في وارسو على ركام الحلف السابق يدس الملح في جروح بوتين. لا بد لراسمي السياسات في الشرق الأوسط من التمعن في قراءة الانقلابات الثلاثة وآثارها. إحباط انقلاب «داعش» وحده لا يكفي. لا بد من ربط حزام الأمان، فالشرق الأوسط يجتاز مرحلة انتقالية عاصفة ومثله العالم. لم تعد أميركا قادرة أو راغبة في دفع ثمن الاضطلاع بدور الشرطي. إنها تهاجم «داعش» وتحاول احتواء هجوم بوتين ويقلقها ذلك الرجل الجالس على عرش ماو تسي تونغ.