ليست المعركة الراهنة معركة حول قانون الانتخاب، بمقدار ما هي معركة حفاظ على المواقع في السلطة الجديدة التي ستنشأ من ذلك القانون، وفي الحياة السياسية التي سيقيمها.
فالمجلس النيابي الجديد الذي سينبثق من الانتخابات المقبلة، لن يكون المجلس الذي سينتخب الرئيس الذي سيخلف الرئيس ميشال عون بعد انتهاء ولايته البالغة 6 سنوات والتي انقضى منها حتى الآن اربعة اشهر ونيف، ولكنّ كلّ المؤشرات تدلّ الى الآن أنّ رئاسة المجلس المقبل منقادة الى الرئيس نبيه بري بلا منازع، وقد بكّر الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في ترشيحه لهذا المنصب مجدداً قبل بضعة اشهر قاطعاً الطريق امام بعض الاصوات التي شعر أنها هدفت الى زرع إسفين في العلاقة بين ثنائي حركة «أمل» ـ «حزب الله».
ولذلك تكمن أهمية الانتخابات المقبلة في أمرين: الاول طبيعة القانون الذي ستجرى على اساسه. والثاني الأحجام التمثيلية للافرقاء السياسيين الذين سيخوضونها، كلٌّ بنية الفوز بأكثرية نيابية ترجّح كفته في السلطة الجديدة، وإن كان هناك شبه تسليم دائم بأنّ «اتفاق الطائف» كرّس أن تُحكم البلاد من خلال حكومات وفاق وطني ومنطق «الديموقراطية التوافقية» وغيرها من المصطلحات والتعابير التي تركز على أنّ البلاد المنقسمة على نفسها سياسياً وطائفياً ومذهبياً «لا تُحكم إلّا بالتوافق»، ولا مجال في ظلّ الطائفية التي لم تُلغَ بعد، لأكثرية أن تحكُم ولأقلية أن تعارض.
لكنّ اللعبة السياسية الداخلية التي يُراد لها أن تنتظم تحت عنوان الوفاق والتوافق بين الافرقاء السياسيين، لن تستوي طالما أنّ هؤلاء الافرقاء ينتمون، مباشرة أو مداورة، الى محاور إقليمية ودولية متنازعة، ما يعني أنّ مستقبل البلاد سيبقى مرهوناً بمستقبل الاوضاع الإقليمية سلباً في حال استمرت الازمات في المنطقة بلا حلول، وإيجاباً في حال توافرت هذه الحلول.
وفي احسن الحالات ربما يستمر الاهتمام منصبّاً على تعزيز الاستقرار الامني في حال ظلت الإرادات الاقليمية والدولية تبدي الحرص عليه كما هي الحال الآن، على رغم بعض الخروق التي يتعرّض لها من حين الى آخر.
على أنّ الاضطراب في الموقف الاقليمي هنا وهناك يتيح لبعض الأفرقاء اللبنانيين هامش تحرّك لتحسين مواقعهم داخل السلطة، أو على الساحة السياسية، يغية أن تشكل هذه المواقع لهم منصات، أو جسوراً لبناء مصالح مع القوى التي ستحتل المشهد الإقليمي بعد تحقيق الحلول لازمات المنطقة من سوريا الى العراق فالبحرين واليمن وصولاً الى دول المغرب.
علماً أنّ هؤلاء الافرقاء اللبنانيين يتحاشون منفردين او مجتمعين بناء أيّ رهان على فريق أو محور إقليمي بعينه، ويفضلون ضمناً وعلناً الانتظار، أو الوقوف على التلة ليميلوا الى مَن تكون له الغلبة، أو اليد الطولى في التسويات الاقليمية الآتية مهما طال الزمن، لأنّ الحروب مهما طالت تنتهي حتماً بتسويات بين المتحاربين.
وتأسيساً على هذه المعطيات فإنّ اهمية الاستحقاق النيابي أيّا كان القانون الذي سيُنجز بموجبه، تكمن في أنه سيحدد أحجام القوى اللبنانية ومدى فعاليتها في الحياة السياسية المستقبلية. ولذلك يُسجّل تردد لدى بعض هذه القوى في خوض الانتخابات النيابية الآن، خصوصاً في حال تقرر إجراؤها وفق قانون لا يمكنها من الفوز بكتل نيابية وازنة أو تمكنها من تعديل كفة السلطة الجديدة لمصلحتها.
وهذا ما يفسر تهاوي صيغ مشاريع القوانين الانتخابية الكثيرة التي طرحت حتى الآن، وكذلك يفسر الرغبات الضمنية والعلنية لدى بعض الافرقاء بتأجيل الانتخابات لسنة ونصف سنة حداً أقصى رغبة منهم في إغتنام هذه المدة لتعزيز ارصدتهم الانتخابية والشعبية التي ضَمُرت أو تراجعت في ما مضى، حتى يضمنوا لاحقاً الفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد النيابية.
ويعتقد البعض أنّ للاستحقاق النيابي الماثل أهمية اضافية تميّزه عن الاستحقاقات السابقة، وتكمن في تنافس كبير يدور في موازاته حول رئاسة الحكومة المقبلة وهو تنافس قد يدفع البعض الى تقديم ما يعتبره سياسيون تنازلات لضمان استحواذه على الرئاسة الثالثة، فيما قد يعتبره آخرون «مبادرات لمصلحة الوطن» وتفريج أزمته.
ولعلّ ما يزيد من حدة التنافس على موقع رئاسة الحكومة هو أنّ الارادات الاقليمية التي تؤثر في هذا الموقع قد خرجت من حصره بجهة أو جهات محددة الى أفق الخيارات المفتوحة، على قاعدة الوقوف على مسافة واحدة من جميع المرشحين لهذا المنصب والذين باتت تربطها بهم علاقات جيدة ولم يعد لديها أيّ «فيتو» على ترشيح هذا الاسم او ذاك.
ولأنّ الامر كذلك، فإنّ بعض الطامحين الى الفوز برئاسة الحكومة مستقبلاً، يتجهون الى اتخاذ مبادرات وبناء علاقات داخلية تجعلهم أرقاماً صعبة في المعادلة الداخلية لا يمكن تجاهلها عند البحث في إنجاز الاستحقاق الحكومي المقبل.
فمثلما الرئيس سعد الحريري يطمح لأن يتولى رئاسة الحكومة التي ستنبثق من الانتخابات المقبلة، فإنّ آخرين غيره من رؤساء حكومات أو شخصيات يطمحون للوصول الى هذا الموقع، وبهذا المعنى يمكن القول إنّ الاستحقاق النيابي المقبل هو نيابي وحكومي في آن، وإنّ نتائجه ستؤسس بنحو أو آخر للاستحقاق الرئاسي الآتي بعد انتهاء ولاية عون، خصوصاً إذا حصل اتفاق ثابت ونهائي على قانون انتخابات مستدام من شأنه أن يرسي استقراراً فعلياً في الحياة السياسية والدستورية التي لم تستقر يوماً بفعل التغيّر الدائم في القوانين الانتخابية.