ما هذا الذي يحل بالشعب العربي في هذه المرحلة من هذا الزمان «أبو» الغرائب والعجائب؟! هل هناك انقلاب مستجد على صعيد الموقف من فلسطين والقدس والعدو الإسرائيلي الذي يسعى إلى صلح مع العرب على ذوقه وذوق حُماته الأميركان؟. نحن الذين ننتمي إلى جيل عايش نكبة فلسطين وداخلته مشاعر الغضب والثورة على وعد بلفور وما تلاه من تآمر على شعب بكامله، ولم تكتف إسرائيل بتهجيره وتشريده وطرده من وطنه ومسكنه والإلقاء به في مهاوي المجهول، بل هي ما زالت تسعى إلى إلغائه من الوجود وطمس معالم قضيته وإلغاء قدسية القدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة من العقيدتين الإسلامية والمسيحية وذاكرة العرب، مسلمين ومسيحيين، ولنا في ما حققته بدعم أميركي كامل على صعيد القدس، فكل ما له علاقة بما يذكر العالم بأن هناك قضية لاجئين فلسطينيين رمتهم إسرائيل وخالقوها في وجه العالم بأسره وفي أحضان مؤسسات الأمم المتحدة كافة ومن بينها مؤسسة غوث اللاجئين.
نحن أبناء الجيل الذي عايش النكبة وأهوالها ونتائجها الناسفة لأدنى حقوق الشعوب وحقوق الإنسان، ما زلنا مسكونين بهذه الأجواء وهذه المظالم اللامتناهية وغير المسبوقة في تاريخ العالم الحديث، لذا، فإن ما حصل ويحصل في العالم العربي على هذا الصعيد يبقى في ضميرنا الوطني والديني في موضع الاستغراب والاستهجان.
دولة بعد دولة، عمدت بعض قياداتها العربية إلى توقيع صلح مع إسرائيل.
ولئن وجد بعضها عذرا لهذا التصرف، في أنها خاضت حروبا طويلة ومكلفة مع المطامح الإسرائيلية وجشعها لقضم ما أمكنها من الأرض العربية، وبالتالي فهي باتت شديدة التحسب لمزيد من المواجهات، فكان الصلح الأول والأهم مع مصر، ثم تلاه صلح آخر مع الأردن، ثم توالت كثير من التصرفات التطبيعية مع عدد لا بأس به من البلدان العربية، إلاّ أننا وفي كل الحالات، بدءا من أولها وأهمها ووصولا إلى آخرها والأقل منها أهمية، كنا نلحظ رفضا لشعوب تلك الدول للتطبيع مع الدولة العدوة ومع مؤسساتها ومواطنيها ومصالحها الاقتصادية، بل ومع نشاطاتها الاجتماعية والفنية والرياضية.
دائما وفي كل الحالات التي مرّت أمام لحظنا، كانت المبادرة التصالحية والمحاولات التطبيعية، تبدأ من خلال الأنظمة والدول وتتحقق من قبلها وقبل دعاتها وحماتها، ما لحظناه في اليومين الأخيرين، يتمثل في ما أعلنته إسرائيل عن أن ثلاثة وفود عراقية مؤلفة من ممثلين لمواطنين ونواب عراقيين، قد زارت الكيان الصهيوني ولقيت ترحابا وتهليلا!؟ وكان من نتيجة هذا الخلل المستغرب والمستهجن أن قامت قيامات المواطنين العراقيين ووسائل التواصل الاجتماعي العراقية، وتمت دعوة برلمانية عراقية إلى وزير الخارجية العراقي والمسؤولين العراقيين للتحقيق في هذا الأمر الخارج عن السياق العربي الشعبي ونقاوة المشاعر الوطنية خاصة وأن هناك إجماعا شعبيا عراقيا سواء لدى الفئات السنية أم الفئات الشيعية العراقية على رفض مثل هذا التصرف المنبوذ الذي يعاقب عليه القانون العراقي لمجرد حصول تخابر مع العدو الإسرائيلي، فكيف بنا إذا ما صحّت المزاعم الإسرائيلية بأن وفودا عراقية ثلاثة قد زارت إسرائيل تكرارا، فهبّة الشعب العراقي بجهاته وفئاته كانت ضد هذا التصرف، وكان موقعه بالنسبة للرأي العام العراقي والقانون العراقي هو بمثابة الخيانة التي تمس الوطن العراقي في صلب كرامته وأصالته الوطنية وعروبته الأصيلة التي يجاهر بها ويفاخر، بل إن الجهات الشعبية التي تدعمها إيران، تجاهر بعداوتها ومحاربتها للأهداف الإسرائيلية الطاغية، وقد بالغت بعض الجهات في هذا التوجه سواء لأسباب مذهبية أو لأسباب قومية فارسية وطموحات إلى مجد أمبراطوري مفقود، إلى درجة انبرى فيها النائب في البرلمان الإيراني جليل أبادي، إلى التصريح العلني بأن إيران وقد أصبحت في وضع اقتصادي سيئ، وأن موقفها من الجوار العربي قد بات يكلف أثمانا باهظة، خاصة وأن التقرب من إسرائيل أيا كان حجمه ووزنه، يلقى من النظام الإيراني استغلالا يحاول من خلاله اقتناص الفرص من هشاشة الأوضاع الداخلية في أكثر من بلد عربي، وفي الطليعة سوريا والعراق ولبنان، حيث أكل الخراب والدمار معظمها أرضا وشعبا ومؤسسات، والتهمها الفساد بشتى صنوفه وأشكاله، إلى الدرجة المعروفة والموصوفة.
في مطلق الأحوال، سننتظر التحقيق الذي ستجريه وزارة الخارجية العراقية لتبيان الخيط الأبيض من الخيط الاسود بالنسبة لهذا الموضوع، وسنرى حقيقة الموقف الشعبي من هذا التصرف العراقي الشاذ (في حال صحة وجوده) فالعراق لم يبق منه إلاّ ذلك العَبَقُ العربي الرافض لوجود الكيان الصهيوني سواء لدى السنة أم الشيعة لديه، وسنراقب بالتحديد ما سيكون موقف الميليشيات العراقية التي ترى إيران وحقيقة توجهاتها بالنسبة لهؤلاء الذين لا بد وأن ينالهم القانون العراقي بعقوباته القانونية وتوجهاته الشعبية الشاملة.
نعود إلى فلسطين: كثير من الخلل والزلل بات يداخل التصرفات العربية بصددها، ولا شك أننا في هذه المعمعة التراجعية يواجهنا الوجود الصهيوني وطموحاته لاجتياح وابتلاع ما أمكنه من هذا الوطن العربي الذي يسوده الضياع في هذه الأيام التائهة، إن لم يكن الآن أو غدا، فإن أولادنا وأحفادنا سيكونون لا محالة على موعد مع نزاع حاد مع هذا الكيان الغاصب.