لا يمكن لعاقل أن يقيس الأحداث الدموية الحاصلة على أرض اليمن، براً وجواً، وما يمكن لها أن تحمله من بذور خلافية، هي مزروعة أصلاً في مربعات الخصومة الإقليمية، بمنظار التفاؤل بشأن الرئاسة اللبنانية المعلّقة على آخر درجات سلم الاهتمامات الدولية والإقليمية.
التوتر الآخذ إلى التصاعد لن يساعد مطلقاً طباخي الطبق الرئاسي في الاتفاق على مكونات موحدة من شأنها أن تُخرح فخامة الفراغ من القصر الجمهوري، لا بل ستزيدهم خلافاً وانقساماً، ما سيؤدي في أحسن الأحوال إلى ترحيل الاستحقاق الرئاسي، وزيادة عمر الشغور.
بعد تخطيه عتبة الثلاثمئة يوم، وبعدما تكافل الجميع وتضامنوا في حياكة حكومة تمام سلام وتغطيتها وصيانتها من أي ضربات خلافية قد تأتيها من دون حسبان، يرمي مَن هم في مراكز القرار الدولي والإقليمي الكرة في ملعب اللبنانيين. يحمّلونهم مسؤولية هذا التبارد والتراخي في اتخاذ «القرار الكبير»، ليس بسسب رغبتهم في صيانة السيادة اللبنانية أو لقناعتهم بقدرة اللبنانيين على إدارة شؤونهم بأنفسهم، بل لأن الملف برمته لا يثير مصالح هؤلاء.
بالفعل، تبيّن مع الوقت بأنّ القوى اللبنانية لا تبدي استعجالها لإنجاز هذا الواجب الوطني على الرغم من كل الدعوات التي تطلق والإدانات التي تُكال بحق المتهمين بالعرقلة، لا سيما أنّ معظم هؤلاء يستظلون فيء الحكومة ويسيّرون أمور الدولة ولو بحدودها الدنيا وكأنّ الفراغ لا يداهم أياً منهم.
قد يكون سعد الحريري مستعجلاً أكثر من غيره بعدما عادت به «النوستالجيا» الرئاسية إلى السراي الحكومية وحمّسته على سلوك طائرة الإياب مرة جديدة. وهذا ما دفعه إلى تحريك مياه منفاه الطوعي بحثاً عن مفاتيح العودة التي تبيّن له أنّها لا تزال صعبة المنال. لكنّ «تياره الأزرق» مرتاح لمائدة البيك البيروتي ولا يستفزه عداد الزمن الذي يمرّ صامتاً في القصر، لا بل يسيّر أموره بأحسن ما يرام.
حتى ميشال عون يضع يديه في الماء البارد ويتكل على عامل الوقت. الانتظار هو سلاحه الفتاك الذي يشهره بوجه خصومه مترقباً التطورات الإقليمية علّها تغيّر وجه المعادلة اللبنانية فتتوج مسيرته السياسية والعسكرية بتاج الرئاسة.
اليوم، وللمرة الأولى منذ نحو عشرة أشهر، ثمة عامل استثنائي يستجدّ على اللعبة وقد يحرك مياهها. قيادة الجيش المهددة بالشغور نتيجة «احتمال» إحالة قائد الجيش إلى التقاعد في حال سقوط معبر التوافق الإلزامي، بالتزامن أيضاَ مع إحالة العميد شامل روكز إلى التقاعد أيضاً.. قد يصبح حينها من المعقول مناقشة ميشال عون في خياراته الثانية.
لماذا؟
عملياً، هي الفرصة الأخيرة كي يترقى روكز من رتبة قائد فوج إلى قائد المؤسسة العسكرية إذا تمّت تغطيته بمظلة الاتفاق السياسي. ولكن أياً من القوى السياسية لن تقدم على هذه الخطوة مجاناً، وقد تضع دفتر شروطها أمام ميشال عون قبل أن تجيّر توقيعها على القرار.
ولهذا، هناك من يتوقع أن يتبرع أحد هذه الأطراف، وتحديداً «تيار المستقبل» كونه معنيا أكثر من غيره في طرح هذا الاتفاق على الجنرال، لمفاتحته بالموضوع وجسّ نبضه.
لا يعني هذا أبداً أن رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» قرر التخلي عن ورقة الرئاسة، أو انتابته القناعة بأنّ زمن «الخطة ب» قد حان. حتى اليوم يتمسك الرجل بترشيحه، ولن يتركه الا شهيداً، كما يصف أحد ضيوفه الدائمين، نائب رئيس مجلس النواب السابق ايلي الفرزلي المسألة.
يلاعب الرجل كل من حوله على أساس أنّه أوّل المرشحين وأوْلاهم بالرئاسة، ولا مجال لمقايضته بأي ورقة أخرى. لا بل هو يعتقد بينه وبين نفسه أنّه قادر على تحقيق انتصار مزدوج: الرئاسة وقبلها قيادة الجيش.
بالنتيجة يتبيّن أنّ ثلاثة سيناريوهات ستوضع على طاولة الرابية، يفترض أن يرسو قرار الجنرال على واحد منها ليحدد خياراته المستقبلية. وهي على الشكل الآتي:
ـ الخروج بانتصار نظيف فيفرض روكز في قيادة الجيش من دون تقديم أي تنازل من جيبه الخاص، على قاعدة قيادة الجيش مقابل قيادة قوى الأمن الداخلي، على أن يحوّل معركته في ما بعد نحو الرئاسة.
ـ التخلي عن قيادة الجيش بعد التأكد أن معركتها خاسرة ولن تؤدي مبتغاها، فيكتفي برهان واحد على مقعد بعبدا. وهو المرجح، لأن الكلام المعسول الذي يلقى أمامه راهناً، قد لا يجد ترجمة جدية. كما يخطئ من يظن أن الرجل أسقط الرئاسة من حساباته.
ـ التخلي عن رئاسة الجمهورية وحياكة تسوية حول قيادة الجيش توصل شامل روكز الى رأس المؤسسة العسكرية مقابل تخليه عن الكرسي المخملي، بعد التأكد أن معركتها خاسرة.