كلام في السياسة |
ليس عابراً مشهد عبد المنعم يوسف، في ساحة النجمة هذا الأسبوع. أن يجلده وائل بو فاعور. فيعجز رئيسه عن حمايته. فيما يلتزم أهله وذووه الصمت. فلا يجد غير حسن فضل الله حافظاً لما تبقى من ماء وجهه أو كرامة!
عبرة أولى من هذا المشهد، أن في السياسة مدرستين ومذهبين.
مدرسة تؤمن بأن الإنسان قيمة. وأخرى تراه مجرد وسيلة. مذهب يعتقد بأن الإنسان هو الهدف. وآخر يصنفه أداة. ليست المسألة ههنا دفاعاً عن عبد المنعم يوسف. ولا تجريحاً بفريقه ولا خصوصاً تقريظاً لفريق فضل الله. لكنها مجرد مشاهدة وقائعية حقيقية دقيقة. فقيصر أوجيرو وامبراطور وزارة الاتصالات، هو رجل فريق سياسي منذ عقدين. لم يكن يوماً صاحب قرار. ولا هو ادعى أنه لاعب سياسي أو زعيم. كان دوماً جزءاً من فريق. كان تلك «العزقة» في هاتيك الماكينة الضخمة الإسمها «حريري». خاض كل معاركهم. ضرب بسيوفهم وتلقى طعنات خصومهم. لوحق وحوكم وهرب وهرّب وتهرّب. اضطهد يوم اضطهدوا وعاد حين عادوا. كان باختصار ظلاً لهم حيث قرروا بسط ظلهم. ولم يخذلهم يوماً، ولم يخن… حتى استنفد. حتى استهلك. حتى بدا كأن صلاحيته انتهت. فترك في حلبة كولوسيو النجمة وحيداً فريداً… لماذا؟ لأنه بكل بساطة فرد حيث الفرد وسيلة لا غير أو مجرد أداة.
في المقابل، لم يكن حسن فضل الله في موقع المستثمر لتلك اللحظة. لم يتصرف كقانص فرصة أو ناشل طريدة. كان بإمكانه أن يزيد الضغط لمزيد من الانهيار أو الكثير من المعلومات. أو كان قادراً على مجرد الفرجة والتشفي. لم يفعل ذلك. يعترف الرجل أن إنسانية حركته. أنه رأى إنساناً يكسر. كاد يقول يطعن في كرامته. قد يكون مشتبهاً به. أو قد يكون متهماً أو مداناً. لكنه يظل إنساناً. وتظل كرامته كاملة. ويظل حفظها واجباً عليه هو كإنسان. فتصرف بما يمليه عليه ضميره وعقله الفردي والجمعي وثقافته ومعتقده.
عبرة ثانية من مسرح ساحة النجمة، أن الفساد عندنا، أو حتى الجناية في لبنان، ليست قائمة في ذاتها ولا يحددها القضاء ولا يشخصها أي باب من أبواب المساءلة أو المحاسبة. الفساد في لبنان، كما أي جريمة فيه، لا يكون ارتكاباً إلا بحسب التصنيف المذهبي له. فحين تعتبره جماعاته المذهبية جريمة، يصير كذلك. وإذا استمرت قبائله المتخلفة في اعتباره براءة، يظل براءة مهما تأكدت الأدلة وأياً غلظت القرائن وثبتت البراهين. هو عبد المنعم يوسف مثلاً جلياً. على مدى أعوام طويلة، صارعه أكثر من وزير. وسيقت ضده عشرات الشكاوى والدعاوى والإحالات. جبران باسيل يروي أنه ضبط ذات يوم تزويراً فاقعاً في مراسلات وزارة الاتصالات. أحاله بحسب الأصول والأنظمة والقوانين إلى ما يفترض نيابة عامة تمييزية. لم يتحرك أحد. لا بل لم يعرف بالموضوع لا إعلام ولا مستعلم. ظل الوضع على حاله وظل «الشغل ماشي». لمجرد أن قبيلة الوزير مغايرة لقبيلة الموظف. تناقُض هويتَي المدعي والمدعى عليه يعطل كل قضاء ويجمد أي مخالفة ويبرئ كل ارتكاب ويمحو كل كبيرة. وفي هذا السياق ليست حالة عبد المنعم سابقة. بل هي القاعدة. أن المرتكب السني لا يصير مرتكباً إلا إذا أدانته مرجعية السنة السياسية. والشيعي كذلك والدرزي أيضاً. والأمثلة كثيرة محرجة حساسة. يظل المسيحي استثناء طبعاً، منذ قام الطائف بلا مرجعية لهم ومنذ خرجوا من الدولة وخرجوا على ذواتهم.
تبقى عبرة أخيرة مرجوة من «محاكمة» ساحة النحمة. ألا وهي سؤال: هل تختتم المحكمة باستئصال الفساد، أم بتقديم كبش فداء وأضحية صغيرة تختارها الجماعة وتقدمها عنها وفق القاعدة الدينية التاريخية أن يهلك فرد خير من أن يهلك الكل؟ فقضية الإنترنت ستمثل نموذجاً ساطعاً حول هذه الإشكالية. ذلك أنه بعد شهر ونيف على افتضاحها، باتت كل تفاصيلها معروفة. من ارتكب ومن خالف ومن اختلف مع من من لصوص القطاع، ومن كان محمياً ومن هدّد محميين آخرين، وكيف اندلعت حرب مافيات الإنترنت انطلاقاً من تحدي أن من يحميني أقوى ممن يحميك. كل المسخرة صارت مكشوفة. ولمن لا يزال يجهل أو يتجاهل، تكفي العودة إلى الشكوى الخطية الموجودة لدى القضاء منذ أكثر من شهر، والمودعة لدى الوزارة المختصة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، والمعروفة من قبل أهل القطاع منذ سنوات. كل شيء مكتوب موثق. اثنتا عشرة شركة بالأسماء والعناوين والهويات. تضاف إليها أسماء الذين فضحهم مَن سقط، على طريقة عليّ وعلى أعدائي. صندوق أسود بمئات الملايين، لا يمكن لتلك الأسماء المغمورة أن تقدر على حمايته. ولا يمكن لتلك الشركات الصغيرة أن تحتمل تقاسم مغانمه من دون غطاء أو أغطية ممن يملك لقب الحصانة وجلد التماسيح. فضيحة الإنترنت، تملك كل الحظوظ لخرق نظام المافيا ومبدأ صمت «أومرتا». فلا يضيع أحد الفرصة.