تنشغل المحافل السياسية اللبنانية بالإجابة عن سؤال محدّد، وهو: لماذا خرَج سياق التهدئة السياسية الذي واكبَ بداية العهد الجديد، عن إيقاعه السلِس فجأةً، وانهارَ هيكل إعادة تطبيع العلاقة بين الرئيسَين ميشال عون ونبيه برّي بنحوٍ لم تكن له مقدّمات واضحة.
هناك عدد من الروايات التي تتبرّع بالإجابة عن هذا السؤال، ويظلّ أبرزها رواية تقول إنّ مسوّدة تأليف الحكومة التي حملها معه الرئيس سعد الحريري إلى عون مساء الأربعاء الفائت، تضمّنت تركيبةً توزّع نسَب حصص المقاعد الوزارية على نحوٍ لم تعجب عون، وشعرَ أنّ فيها بصماتِ عين التينة.
وتقول هذه الرواية إنّ هذا الأمر شكّل السبب المباشر للخلاف الذي نشبَ بعد ظهر الخميس بين عون وبري، وفي التفاصيل أنّ عون يتمسّك بحصّة مقاعده المسيحية كاملةً والتي يجب، من وجهة نظره، أن تتألف من 12 وزيراً، تتشكّل من حصته كرئيس للجمهورية وحصّتي «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، وحصّة الكتائب (مقعد واحد)، فيما الطرف الإسلامي، خصوصاً الطرف الشيعي المكلّف برّي التفاوض باسمِه، يريد توزيرَ النائب سليمان فرنجية والحزب السوري القومي الاجتماعي، وأيضاً تيار «المستقبل» يريد توزير غطاس خوري، على أساس احتسابهم أنّهم من حصة المقاعد المسيحية الـ 12 وليس على أساس احتسابهم كما يريد عون من حصّة المقاعد الإسلامية.
بمعنى آخر، يصرّ عون على أنّه يقبل فقط بتوزير «المردة» و«القومي» وأيضاً غطاس خوري مقابل إعطائه 3 مقاعد إسلامية مقابلها، وذلك لضمان أن تبقى حصّته من الوزراء المحسوبين عليه وعلى حلفائه «التيار» و«القوات» داخل الحكومة 11 وزيراً زائداً مقعد الكتائب.
وتفيد معلومات أنّ عون طرَح على «المستقبل» أنّه سيسمّي ليلى الصلح في مقابل إعطاء غطاس خوري لـ«المستقبل»، وأيضاً يطرح على مفاوض الثنائية الشيعية أنّه يريد تسمية وزيرين مسلمين بدلاً من وزيرَي «القومي» و«المردة» المسيحيَين، بينهما شيعي.
بكلام آخر لا يوافق عون على مسوّدة حكومية تحدّد حصّته الوزارية داخل الحكومة العتيدة بـ 8 وزراء، ويصرّ على حصة الـ 11 زائداً الكتائب. وهو أمر يتحفّظ عنه برّي المفاوض باسمِ الثنائية الشيعية، وهناك تقدير بأنّ أمرَ نجاح الحريري في تسوية مبادلة توزير غطاس خوري بوزير سنّي لعون أسهل.
الواقع أنّ هذا الخلاف حول نِسب الحصص داخل الحكومة العتيدة الذي ظلّ صامتاً بعد تسليم الحريري عون مسوّدة تشكيلته، حمله معه عون خلال زيارته التي رُتّبت على عجَل لبكركي، وفي ذهنه أنّها المناسبة السانحة ليغمزَ فيها من قناة بري في إشارةٍ للأخير بأنّ تحفّظه عن حصة رئيس الجمهورية داخل الحكومة العتيدة غيرُ مقبول لا من بعبدا ولا من بكركي.
أقلّه هكذا قرَأت الأجواء الشيعية تزامُنَ استحضارِ عون من بكركي لذاكرةِ خلافِه مع برّي في شأن التمديد لمجلس النواب، واستحضار الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي لذاكرة خلافه مع برّي أيضاً حول السلّة، علماً أنّ المسألتين أصبحتا من الماضي. والسؤال في عين التينة هو لماذا يتمّ نَكأهما الآن؟
وخلال زيارته لبكركي، والتي جاءت بعد تسلّمِه من الحريري التشكيلة التي لا تلبّي شروط حصّته داخل الحكومة العتيدة، قرّر عون انتهاز فرصةِ وجوده في بكركي كمناسبة عامة، للغمزِ من قناة بري عبر استحضار الحديث عن التمديد لمجلس النواب الذي يشكّل منذ فترة مادة سجالية بينهما.
وجاء كلام الراعي الذي استحضر ايضاً في المناسبة نفسها انتقادَه لبري في موضوع «السلة»، ليدفعَ رئيس المجلس النيابي إلى تكوين فكرة تقول إنّ ما يحصل هو إطلاق نار سياسي عليه، صادر من موقع رئاسة الجمهورية ومغطّى بالمرجعية الروحية المسيحية.
وقرّر بري الردّ بنوعية الأسلحة نفسِها التي هاجمته، فأصدرَ بياناً عن رئاسة المجلس النيابي وأيضاً تمّ تنسيق بيان صَدر بعد ساعتين عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى يردّ على الراعي.
إلى هذا الحد تنتهي، بحسب مصادر متابعة، قصّة الأسباب المباشرة لاشتباك عون ـ بري السياسي، ولكن ماذا عن الاسباب غير المباشرة، والأعمق؟
تُعدّد هذه المصادر كثيراً منها، أوّلها أنّ بري يَعتبر أنّ تكليفه من «حزب الله» التفاوض على تأليف الحكومة باسمِ الثنائية الشيعية، هو مثابة تكليف «فوق حكومي» بل هو سياسي بامتياز.
وهذا التكليف يَضمر في ثناياه الآتي:
ـ أوّلاً، أنّ حزب الله أنجَز وعده لعون بوصوله إلى رئاسة الجمهورية، وما تبقّى من ترتيب البيت الداخلي اللبناني خلال عهده يخضع لعملية تفاوض سياسي يديره بري.
ـ ثانياً، من خلال مسار التفاوض على تأليف الحكومة وحتى ما قبله، تُبدي الثنائية الشيعية عدم ارتياح الى تضخيم حجم «القوات اللبنانية» في الحكومة الأولى للعهد، ما يؤشّر إلى أنّ توافق العهد مع «القوات» يطرَح أسئلة سياسية وليس فقط انتخابية وما شابَه.
وبحسب أجواء قريبة من بري، فإنّ السبب الأساس الذي جعل بري يتحفّظ عن انتخاب عون، لا يزال موجوداً في ذهنه وعقله السياسي، على الرغم من أنّه طوى صفحة معارضة ترشيحه، لمصلحة تعاونٍ مشروط مع عهده. والمبعث الأساسي لتحفّظ بري أنّ عون يريد تغييرَ قواعد اللعبة السياسية القائمة، وذلك بأسلوب الضربة الواحدة والقاضية.
هذا القلق نفسُه موجود عند النائب وليد جنبلاط الذي يلاحظ في كواليسه أنّ «القوات اللبنانية» كحزب، نالت تمثيلاً من مقاعد الحكومة يفوق تمثيلَ كلّ الطائفة الدرزية. وحتى بيان كتلة «حزب الله» النيابية بعد اصطدام مسوّدة حكومة الحريري بتحفّظ بعبدا، عبّر عن هذا القلق، وذلك حينما دعا إلى توسيع مروحة التشكيلة الوزارية لتضمّ الجميع.
ثمّة أزمة صامتة أخرى أيضاً تقف خلف مشهد الانتكاسة التي واجهَت تشكيلَ الحكومة، غير أزمة عون ـ بري الأخيرة، وهي قانون الانتخاب، حيث تفيد معلومات أنّ بعض الجهات الوازنة في تشكيل الحكومة لديها «خطة ب» في حال استعصى تشكيل الحكومة، وهي اللجوء إلى تأخير موعد تشكيلها لفترة دخول البلد مهلة إعلان القانون الانتخابي الذي على أساسه ستجري الانتخابات النيابية، ما يضمن الإبقاءَ على قانون الستين.
وعليه يبدو الخيار الأفضل لهذا الفريق هو تركُ أربعة مقاعد رئاسية خلال العرض العسكري بدلاً من ثلاثة، حيث يستمرّ مشهد رئيس مكلّف ورئيس تصريف أعمال إلى لحظةٍ يصبح فيها قانون الستّين أمراً واقعاً.