IMLebanon

ثلاث تسويات تاريخية ممكنة وواجبة

 

كانت السمة الأبرز للنظام الإقليمي، الذي تشكل في المنطقة العربية في النصف الثاني من القرن الماضي، واندرج في سياقات الحرب الباردة ومفاعيلها، إنتاج الأزمات والصراعات والحروب، حيث تغلبت في هذا النظام سياسات المحاور والأحلاف على ثقافات السلام والديموقراطية والتنمية البشرية، وغلبت «أدلوجة» الانحياز إلى معسكر فكرة إنتاج علاقات وقيم ومعان مشتركة بين البشر.

 

 

واستناداً إلى رؤية صراعية للحياة أو بالأحرى رؤية «تكاونية» لها، لم يتوان اليساريون والقوميون العرب عن ترديد شعارات ومقولات مثل: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، «الصراع الطبقي محرك التاريخ»، «الحرب قاطرة التاريخ العمياء»، و «الحرب امتداد للسياسية بوسائل أخرى»، إلى آخر هذه المصفوفة التي قوامها التعبئة والتحشيد، حيث مُجدّت قيم الحرب، واحتلت الفضاء العمومي، وصارت من مكونات الوعي الأيديولوجي المستلب، الذي استنفد البشر في انتماءاتهم الأولية والدموية، ومع استنفاد البشر في أبعادهم ما دون الوطنية، تراكبت الصراعات في مواجهة «الخارج» مع الانقسامات المجتمعية الداخلية، فأصبح «الخارج» خارجاً لبعض «الشقف» المجتمعية و «داخلاً» لـ «شقف» أخرى.

 

ألم يكن الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان غازياً بالنسبة إلى قسم من اللبنانيين وحليفاً استراتيجياً لقسم آخر منهم؟! أولم يكن الوجود الأميركي في العراق حليفاً للقوى الإسلامية الشيعية وعدواً مبيناً لقوى «المقاومة العراقية السنية»؟! ألا تنجدل على التدخلات الإيرانية والتركية والروسية والأميركية في سورية، حالياً، انقسامات مجتمعية وازنة؟! ولا تعوزنا الأمثلة للتدليل على تحول «الخارج داخلاً» وتخارج بعض «الداخل» عن بعضه الآخر، إلى درجة يمكن معها الاستنتاج أنه من العبث والعدمية لـ «المجتمعات» المنقسمة عمودياً، أن تخوض صراعات مع عدو خارجي. فمن دون تشكل واضح وحاسم للمسألة الوطنية/ القومية (الوطنية والقومية تشيران إلى مضمون واحد)، تتحول الحرب مع الخارج إلى أحد عوامل الحرب الداخلية، وقد بدا ذلك واضحاً في مآلات غالبية ثورات «الربيع العربي».

 

لذا، فإن تراكب الصراعات والحروب الداخلية مع الخارجية، أدخل «مجتمعاتنا» في مسارات كان يطلق عليها الراحل الياس مرقص مسارات «نمو العدم» في حياتنا السياسية والمعرفية والأخلاقية والاجتماعية، نمو عدم الأخلاق على حساب وجودها، وعدم الحرية وعدم الدولة وعدم المساواة وعدم المعرفة وعدم المواطنة.

 

ولم يعد ممكناً أن يتوقف «نمو العدم» هذا إلا بإنجاز ثلاث تسويات تاريخية، تغلق ثلاثة مولّدات مهمة له:

 

التسوية السّنية – الشيعية، والتسوية العربية – الإسرائيلية، ثم التسوية العربية – الكردية: ثلاث تسويات متشابهة المضامين على رغم الاختلافات الكثيرة في شروطها وظروفها، لكن تشابه ماهياتها يتأتى من:

 

أولاً، إنها تسويات صراعات وحروب قائمة على مبادئ الهوية، سواء كانت هويات مذهبية أو دينية أو إثنية، ولا يُحل أيّ منها وفقاً لمبدأ الغلبة أو كسر الإرادات، ولا تصلح أية هويّة منها لتشكيل مجال عام، يمنع التشظي والاحتراب الداخلي.

 

ثانياً، إنها تسويات تنبني على رفض مبدأ «الدولة الدينية»، لذا فإن «تهويد الدولة» متهاوٍ مع «تشييعها» أو «تعريبها» أو «تكريدها» أو «تسنينها»، وتنبني، أيضاً، على الانتقال من مفهوم الملة الديني إلى مفهوم الأمة العلماني.

 

ثالثاً، إنها تسويات تستوجب انتقال البشر القاطنين في هذه المنطقة من العالم إلى أفق مختلف في إنتاج المعرفة والثقافة والقيم العامة والعلاقات المشتركة، وتعيد تعريف معنى الحياة الآدمية، فلا يتفق مع المعنى الجديد أن يكون الإنسان وسيلة لتحقيق العقائد والأيديولوجيات الكبرى، بل يتفق معه أن يكون الإنسان منتجاً مبدعاً للاجتماع البشري القائم على حاجات المستقبل، وليس على أوهام ماضٍ مات وشبع موتاً.

 

رابعاً، إنها تسويات صراعات «مانويّة»، «تعادمية»، يمثل استمرارها هدراً مطلقاً للحياة الإنسانية.

 

خامساً، إنها تسويات تراهن على سيادة قوى الاعتدال والتسامح والعقلانية، وعزل قوى التطرف والعنصرية، التي تنطوي مبادئها المعرفية والأخلاقية على عناصر إمبريالية.

 

إنها ثلاث تسويات تقوم على المقدمات المعرفية والأخلاقية ذاتها.