في اليوم الذي كان الباجي قائد السبسي رجل التاسعة والثمانين يواصل يوم السبت 3 يناير (كانون الثاني) 2015 تقبُّل التهاني بتسلمه الرئاسة بعدما أدى اليمين الدستورية من أجلها أمام البرلمان في اليوم الأخير من العام 2014 وكانت أجواء تباشير الاستقرار والازدهار تملأ حياة الناس في تونس لأن الرئيس السابق المنافس المنصف المرزوقي أدى واجب التسليم للمتسلم وبكامل الرضى… في هذا اليوم كان الجنون الليبي يحاكي بقية توائم الجنون (السوري والعراقي واليمني) ويتواصل زهق الأرواح وتشييع الجنازات وهدْر الثروات وهجرات الناس أفواجا أفواجا، ومن دون أن تكون خشية الله واردة في نفوس مرتكبي هذه الإساءات في حق الأوطان.
وفي لبنان المفترَض أنه صنو تونس لجهة التعقُّل والتراث الحضاري الفينيقي كانت ظاهرة «الاحتلال الخلاَّق» صنو «الفوضى الخلاَّقة» تزداد تعطيلا لملء فراغ الرئاسة الأولى وتنطلق أصوات المرجعيات الدينية وكأنما هي قرْع الأجراس ورفْع الأذان من أجل تأدية الفريضة فيقول بطريرك الطائفة المارونية مار بشارة بطرس الراعي، التي لا يتفق أقطابها على مرشح يملأ الفراغ، من الكلام ما يبدو أنه أدعية تقال من أجل شفاء إنسان مريض، ويذهب مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان أبعد من ذلك حيث يغتنم ذكرى المولد النبوي المتزامِنة مع ذكرى ميلاد السيد المسيح فيقول «إن وطننا لبنان مهدَّد ونظامنا السياسي مهدَّد…».
وفي هذا اليوم (أي السبت 3 يناير) الذي دخل فيه لبنان اليوم الرابع والعشرين بعد المائتين من دون رئيس للجمهورية، كان السفير السعودي لدى لبنان علي عواض عسيري الذي يكاد يجف حلقه من دون أن يفقد صبره ويختصر دعواته وزياراته على رموز اللعبة الرئاسية من أجل الاتفاق على مرشح يملأ الفراغ الرئاسي، ينقل إلى الوزير السابق فيصل كرامي تعازي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز (عافاه الله وحفظه) وولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز بوفاة والده رئيس الحكومة الأسبق عمر كرامي الذي ووري الثرى في العاصمة الثانية طرابلس مجاورا والده عبد الحميد وشقيقه رشيد. وإلى السفير عسيري أمطر أهل السياسة والأحزاب الراحل بإشادات وتناسى البعض منهم مشاحنات الماضي غير البعيد، وهكذا بدا واضحا أن عمر كرامي لقي التكريم الاستثنائي راحلا لتعويض استهانات به وصلت إلى حد إفشاله معركة الانتخابات النيابية.
برحيل عمر كرامي ينضم نجله فيصل إلى لوحة الأبناء الذين يرثون عن الآباء المنصب الرئاسي وهو أمر يختص بجزئية من الحياة السياسية في لبنان دون غيره من الدول العربية. واللافت أن فيصل كرامي في حال اختيار اسمه من بورصة الذين يمكن تكليفهم مستقبلا بتشكيل حكومة هو مثل رئيس الحكومة الحالية تمام سلام.
في مسلسل الأبناء الوارثين حديثا يندرج اسم سعد الدين رفيق الحريري (الابن الثاني) وليس الابن البكر بهاء الذي اختار أن يكون رجل أعمال ناجحا. أما في مسلسل الأبناء الوارثين قديما فيندرج اسم رشيد كرامي وارثا بعد حين منصب رئاسة الحكومة من والده عبد الحميد، كما يندرج اسم عمر كرامي وارثا بعد حين أيضا المنصب من شقيقه رشيد. كما أن سليم الحص وفؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي لن يورِّثوا.
وحدها عائلة الصلح استأثرت بـ3 صلحيين تعاقبوا، بعد اغتيال رياض الصلح، على ترؤس الحكومة (سامي الصلح 4 دورات ولم يورث ابنه عبد الرحمن الذي تم إسناد منصب مدير مكتب الجامعة في بيروت إليه) وتقي الدين الصلح (دورتان ولم ينجب لكي يورِّث) ورشيد الصلح (دورتان ولم يورِّث هو الآخر). وكانت علياء الصلح كبرى بنات الوالد رياض مؤهلة لكي تتزعم بعد حين من بعده وتكون لها شخصية تجمع بين صلابة مارغريت ثاتشر وعمق أنديرا غاندي وشفافية بي نظير بوتو. لكن لبنان الذي يمكن أن تؤدي علياء فيه مهارتها هو لبنان الخالي من الوصاية، ولذا اقتصر حضورها السياسي على كتابة المقالات التي حذرت فيها كما لو أنها تكتب في بيان وزاري لحكومة تترأسها.
أما الرئاسة الثانية (مجلس النواب) التي هي حصة الطائفة الشيعية من الرئاسات فبقيت من الترؤس الأول بعد الاستقلال عام 1943 وحتى العام 1984 حكرا على 3 عائلات فقط هم صبري حمادة (5 دورات) وأحمد الأسعد (دورة واحدة) عوَّضها ابنه كامل (3 دورات) وعادل عسيران (دورة واحدة). وهكذا نرى أن أحمد الأسعد هو الوحيد بين رؤساء البرلمان الذي ورَّث الرئاسة والزعامة إلى ابنه من دون أن يتمكن الابن من توريث ابنه الذي يحمل اسم جده، وذلك لأن وقوع لبنان تحت الوصاية الأسدية أدخل تعديلا جذريا على طبيعة الزعامات السياسية عموما وبالذات زعامة الطائفة الشيعية. ونرى هنا حسين الحسيني يسجل اختراقا للمألوف ويترأس البرلمان لدورة واحدة لا تكفي لتأهيل وارث له. كما نرى بعد ذلك نبيه بري يسجل «ربيعا شيعيا» ويترأس البرلمان منذ 20 أكتوبر (تشرين الأول) 1992 وحتى الآن.. أو بالأحرى حتى إشعار آخر في عِلْم المجهول. وفي حساب التوريث يجوز الافتراض أن في استطاعة نبيه بري توريث ابنه مصطفى زعامة شعبية وبهذه الزعامة يصطف بري الابن إلى جانب الحريري الابن إلى جانب سلام الابن إلى جانب كرامي الابن.
وأما بالنسبة إلى الرئاسة الأولى فإن الأمر يختلف عن الرئاستين الأُخريين حيث إن التوريث غير وارد من جانب الذين شغلوها. وعندما افترض ريمون اده أنه الأكثر جدارة ليكون رئيسا للجمهورية كون والده إميل اده ترأسها مرتين (إنما في مرحلة ما قبل الاستقلال) فإن معادلة الرئاسة الأولى لا تورَّث للأبناء (عِلْما بأنها غير واردة في نص دستوري) أحبطت تطلعه مع أنه لو ترأس لكان الأكثر تميزا بين السابقين واللاحقين من حيث وطنيته وواقعيته وعدم تعصبه.
ولم يورث الرئيس الأول في عهد الاستقلال بشارة الخوري ابنا ينخرط في العمل السياسي، كما فعل الرئيس التالي كميل شمعون الذي ترك حزبا يقوده ابنه دوري. أما الرئيس الثالث فؤاد شهاب مدشِّن ظاهرة إدراج اسم قائد الجيش في قائمة المتداولة أسماؤهم لشغل منصب رئيس الجمهورية، فإنه كما الرئيس الخلَف شارل حلو لم يورِّثا فضلا عن أنهما لم ينجبا لتبدأ بعد ذلك المرحلة الأكثر خطورة في الحياة السياسية اللبنانية مع تولِّي سليمان فرنجية الرئاسة والذي أرغمتْه الحرب الأهلية على المغادرة غير المستحَبة والكريمة من القصر تحت وطأة صواريخ أطلقها فصيل انشق عن الجيش تحت مسمى «جيش لبنان العربي». ثم تنقضي 38 سنة على الترحيل غير الكريم للجد من القصر الجمهوري ويندرج اسم الحفيد سليمان المتطلع إلى وراثة جده من منطلق تعويض الجد استهانة أُلحقت به دون وجه حق.
لم ينجب الرئيس إلياس سركيس الذي خَلَف سليمان فرنجية (الجد) بعملية انتخابية قيصرية، ثم بدأ من بعده بشير الجميل الذي اغتيل من قبل أن يتسلم الرئاسة وهنا تحدث حالة التوريث الأولى إنما بصيغة تطييب الخاطر حيث إن أمين الجميل ورث الشقيق. ثم يسقط رينيه معوض أول رئيس في حقبة «لبنان الطائف» تاركا الابن ميشال الذي تجمعه بابن مدينته ومنطقته سليمان فرنجية الحفيد تطلعات تعويض الاستهانة في حق الجد سليمان والاغتيال للوالد رينيه بأن يترأسا.
وأما الجنرال الرئيس ميشال سليمان الذي استعجل المغادرة من القصر فإنه أورث لبنان بهذه المغادرة إضافة جديدة إلى المعادلة وهي: لا تمديد ولا توريث حتى إذا بقي القصر الأول مهجورا فيما القصران الثاني والثالث يعيشان حراكا يدفع بلبنان نحو مجتمع الدول الواقعة تحت «الاحتلال الخلاَّق» توأم «الفوضى الخلاَّقة».