IMLebanon

ثلاثة أسباب للثورة

 

 

دخل لبنان مع ثورة 17 تشرين الأول أو ثورة «الواتساب» في مرحلة سياسية جديدة وتحدّيات جديدة قد يصعب تحديدها منذ اليوم، ولكن الأكيد أن لا عودة إلى ما قبل هذا الدفق الشعبي غير المسبوق. لم يسبق ان شهد لبنان في تاريخه ثورة اجتماعية من هذا النوع، فثورة الدواليب عام 1992 عدا عن كونها مركّبة، لا تُقارن شعبياً بالثورة الحالية، فيما الثورات الأخرى من ثورة 1958 إلى ثورة 14 آذار 2005 وما بينهما من انتفاضات ووقفات، كانت سياسية الطابع، أي تفرز الشعب اللبناني إلى قسمين، هذا الشعب الذي قلمّا اتفق على عناوين وطنية مشتركة.

 

حالت التركيبة المجتمعية في لبنان دون وحدة موقف لبناني حول قضايا بديهية، ولكن جوهرية في الوقت نفسه وتتصل بسيادة لبنان واستقلاله ونهائية كيانه وحياده وغيرها من القضايا. فالانقسام السياسي كان يطغى باستمرار على الهمّ المعيشي والاقتصادي إلى أن برز عام 2015 ما اصطلح على تسميته «الحراك الشعبي» الذي أظهر، خلافاً للانقسام الذي كان قائماً بقوة بين 8 و 14 آذار، أنّ هناك شريحة واسعة من اللبنانيين أولويتها معيشية لا سياسية. ولكن هذا الحراك الذي نجح في استقطاب الناس لم يُكتب له النجاح والاستمرارية بسبب الخلافات بين مكوّناته التي حاولت تأطيره وتنظيمه وإثارة عناوين وقضايا يستحيل تحقيقها.

 

والمؤشر الثاني لأولوية الناس المعيشية ظهر في انتخابات عام 2018 عندما صارحت البيئة الشيعية مثلاً، وهي البيئة الأكثر تشدداً، «حزب الله» بأنّ دعمه في خيار المقاومة لا يعني عدم محاسبته على تقصيره في مواجهة الفساد والفقر والجوع، وهذا ما دفع السيد حسن نصرالله إلى وضع عنوان مكافحة الفساد في مصاف عنوان مواجهة إسرائيل نزولاً عند رغبة بيئته، ولكنه سرعان ما تراجع عن هذه المهمة بفعل تبدية سلاحه على أي اعتبار آخر.

 

وما يجدر ذكره، أنّ الوضع الاقتصادي في المحطتين كان أفضل حالاً من الوضع الذي دخلت فيه البلاد مع نهاية العام 2018 و2019، حيث لمس الناس لمس اليد حجم التدهور والمخاوف في كل القطاعات وعلى شتى المستويات، وفي هذا المجال لا بدّ من الإشارة إلى مبادرتين لـ»القوات اللبنانية» لو تمّ الأخذ بهما لما انفجر غضب الناس:

 

المبادرة الأولى بدأت مع أوّل حكومة في عهد الرئيس ميشال عون وتمثلّت في تشديد «القوات» المستمر على ضرورة إيلاء الوضع الاقتصادي كل التركيز المطلوب، وهذا ما دفعها مثلاً إبّان الفراغ الحكومي الطويل الذي أعقب انتخابات 2018 بالدعوة إلى ضرورة ان تلتئم حكومة تصريف الأعمال لمواجهة التحدّيات المالية ربطاً بمعطياتها الاقتصادية المتواضعة التي تشير الى خطورة الأوضاع ودقتها، فاتُهمت بأنّها تسعى إلى استمرار الفراغ بغية ضرب العهد، فيما لو تمت مقاربة الوضع بشكل مسؤول، لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه اليوم.

 

المبادرة الثانية تقدّم بها الدكتور سمير جعجع على طاولة الحوار في بعبدا، فدعا إلى استقالة الحكومة وتشكيل أخرى مختلفة تماماً، لأنّ الحكومة الحالية أعجز من مواجهة التحدّيات المالية والاقتصادية، ولأنّه لا بدّ من حكومة اختصاصيين تعطى مهلة محددة وصلاحيات استثنائية لقيادة لبنان إلى برّ الأمان. فاتُهم جعجع مجدداً بأنّه يعرقل بمبادرته مسيرة العهد، فيما لو أُخذ بهذا المطلب لما خرج الناس من منازلهم الى الشارع في مشهد غير مسبوق في لبنان.

 

فرئيس «القوات» استشرف الوضع قبل غيره، فيما كان يُفترض بأصحاب القرار استشراف هذا الوضع قبله بفعل مواقعهم واطلاعهم على حقيقة الأمور والتقارير الرسمية التي بحوزتهم، وبالتالي لو أعطي الوضع الاقتصادي الاهتمام اللازم واستقالت الحكومة وتشكّلت أخرى مختلفة لما ولدت ثورة 17 تشرين الأول، والثورات لا تولد إلاّ بفعل الغضب والنقمة والاستياء والكرامة والجوع، وولادتها تعني انّ الأمور ليست على ما يرام في البلاد وانّه يجب الأخذ بمطالب الناس، ما يعني انّ مبادرتي جعجع كانتا في مصلحة العهد والحكومة والبلد.

 

أمّا لماذا وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه وخرج الناس إلى الساحات؟ وفي الإجابة يمكن التوقف أمام ثلاثة أسباب أساسية:

السبب الأول، لأنّ لبنان فعلاً على حافة الانهيار الاقتصادي والمالي، وهذا الكلام ليس من قبيل التخويف ولا المؤامرة، إنما مسألة معيوشة يومياً في البطالة والغلاء والجوع والخوف الذي شكّل المحرِّك الأساس للناس. والأهم من كل ذلك يكمن في المؤشرات المالية والاقتصادية التي تشير بوضوح الى أنّه إذا لم تُتخّذ إجراءات نوعية ومختلفة فإنّ الانهيار الكبير حاصل حتماً، ولم تلمس الناس على رغم مأسوية الوضع أنّ القوى السياسية مهتمة بمعالجة الأمور وتجنيبها الفقر والجوع.

 

السبب الثاني، لأنّ أولوية خلافة العهد تصدرّت أولوية إنجاح العهد، ولأنّ الأولوية الأولى تستدعي انتزاع شرعية لا يمكن انتزاعها سوى بالمواجهات المتنقلة، فحوّل باسيل عهد الرئيس عون من عهد كان يُفترض أن يكون من أكثر العهود استقراراً، إلى عهد اللاستقرار، فلا تكاد مواجهة تخبو حتى تُشّن أخرى، وعندما لا يواجه فريقاً بعينه يرفع ملفاً خلافياً، ومن أبرز الأمثلة الأخيرة على ذلك تهديده في مناسبة 13 تشرين بقلب الطاولة وإعلانه الذهاب الى سوريا للقاء بشار الأسد، فهل يُعقل انّه في عزّ الانهيار وصميمه يثير باسيل مسألة خلافية بهذا الحجم بدلاً من التركيز على الاستقرار والمعالجات الاقتصادية؟ وليس بالصدفة أنّ غضب الناس كان موجّهاً ضد باسيل شخصياً، والذي يتحمّل مسؤولية أساسية عمّا آلت إليه الأوضاع بسبب الأجندة «القتالية» التي وضعها خدمة لأهدافه الرئاسية.

 

السبب الثالث، لأنّ معظم القوى المكوّنة للحكومة لا تريد الإصلاح الفعلي الذي يحدّ من مكتسباتها ومداخيلها التمويلية السياسية من قطاعات الدولة على حساب الناس، وتريد إبقاء القديم على قدمه. فـ»القوات اللبنانية» قدمّت عشرات الأوراق الإصلاحية ووصلت إلى قناعة مفادها أنّ الأساس يكمن في «من ينفِّذ ماذا»؟ بمعنى انّ هذه القوى مجرّبة ولا تملك الأهلية للإصلاح الفعلي، فهي تملك فقط أهلية المزايدة بالإصلاح وليس ترجمته على أرض الواقع، وهذا ما يفسِّر رفض الناس الاستماع إلى تجدّد المزايدات بالإصلاح.

 

فلا يمكن الكلام على إنقاذ اقتصادي في ظل هذه القوى السياسية، ومن هنا ضرورة تأليف حكومة أخرى، وذلك بمعزل عن الثورة الشعبية، وبالتالي كيف بالحري مع ثورة من هذا النوع وناس ملّت من الوعود الكاذبة، فضلاً عن أنّه من غير الجائز صمّ الأذان عن ثورة غير مسبوقة بضخامتها في تاريخ لبنان.

 

ويخطئ كل من يعتقد انّ إمكانية العودة إلى ما قبل 17 تشرين الأول ممكنة، فالناس لم يعد في استطاعتهم رؤية مجلس الوزراء مجتمعاً، ولا خيار سوى باستقالة الحكومة، وكل تأخير في الاستقالة سيفتح الوضع أمام مطالبات أخرى وتصعيد يؤدي إلى انزلاق لبنان في متاهة ما بعدها متاهة.