حين كان مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي يطمئن الأصوليين إلى «فشل» الغرب في «تركيع» بلادهم خلال المفاوضات النووية، إنما كان يعني أن ليالي الأنس في فيينا بين الأميركيين وحكومة الرئيس حسن روحاني، لن تتحول شهر عسل ينقلب على المتشددين ويعزلهم في الداخل. وحين أصر روحاني على أن «مفتاحه السحري» للحوار مع واشنطن، لم ينكسر رغم تمديد المفاوضات 7 أشهر، بدا واثقاً من أنه سينتصر على رغبات الأصوليين وآمالهم بتجرّعه كأس الفشل.
والحال أن الذين ابتهجوا بعدم إعلان اتفاق بعد المفاوضات الماراثونية في فيينا وباريس هم «أصوليو» أميركا الجمهوريون المتشددون، وأصوليو إيران وعلى رأسهم «الحرس الثوري»، وأصوليو اليمين المتطرف في إسرائيل الذي تمثله حكومة بنيامين نتانياهو.
ولكن، ما الذي يحول دون توسيع دائرة المنتفعين الذين يخشون بيعهم في سوق الصفقة العسيرة، في إطار تبادل أوراق وأدوار ونفوذ ومصالح بين إيران و «الشيطان الأكبر»؟ حتى الروس الذين حرصوا على إظهار تفاؤلهم في ربع الساعة الأخير، فيما كان وزير الخارجية الأميركي جون كيري يتأبط الوثائق «النووية» في رحلاته المكوكية بين فيينا وباريس، قد تؤذي مصالحهم الآن خسارة الحليف الإيراني الذي سيفتح أسواقه للمصانع الغربية والأميركية ومنتجاتها.
كانت مصادفة بائسة للكرملين أن لا يستطيع المقايضة أو المساهمة في مقايضة ما، في إطار صراعه المحتدم اليوم مع الأميركيين والغرب عموماً. فالأكيد أن لا إيران المرشد سترضى بتجريدها من القدرة النووية إلى الصفر، ولا روسيا ولا الغرب جاهزان لصفقة دولية، تشمل إلى الملف «النووي» النزاعات الكبرى، خصوصاً أوكرانيا وسورية.
كان من مصلحة النظام السوري بالتأكيد أن لا يصل قطار مفاوضات فيينا إلى خاتمة سعيدة، خشية التضحية به لاحقاً، ضمن تبادل أوراق لعبة الأمم، والتطبيع الإيراني- الغربي، أو على الأقل تفهم طهران رغبة الأوروبيين والأميركيين في عدم إحياء «شرعية» النظام في دمشق.
ما يسميه أصوليو إيران الاتفاق «المبهم» الذي أُعلِن في فيينا لتمديد المفاوضات «النووية»، يعتبرونه أيضاً «طريقاً مسدوداً». وإن غمزوا من قناة روحاني و «مفتاحه السحري» وتشفّوا به، لأن المفاوضات باتت «في غرفة إنعاش لسبعة أشهر»، فاللافت في كل الأحوال أن رئيس البرلمان علي لاريجاني حين يتحدث عن مفاوضات سياسية «لم يتضح كل أبعادها»، يلجأ إلى الغموض الذي يجدد القلق من حيّز «صامت» يُخَصَّص للملفات الإقليمية ودور طهران فيها.
والغموض «البنّاء» لحماية القنوات السرّية بين طهران وواشنطن، مثل الرسائل المتبادلة بين خامنئي والرئيس باراك أوباما، والتي سبقت ماراثون فيينا، يحيل على معلومات عن «توافق» سرّي بينهما على عدم استهداف الأميركيين نظام الأسد في الغارات الجوية التي تلاحق «داعش»، وعلى استبعاد الإدارة الأميركية المنطقة الآمنة التي تطالب بها تركيا في شمال سورية. ورقتان إذاً لمصلحة طهران، ولكن، ما المقابل في الملف النووي، خصوصاً أن المرشد يكسب نقطة في صراع النفوذ مع أنقرة؟
المفاجأة، كما تتداولها أوساط ديبلوماسية عربية، هي أن إيران وافقت على فتح كل منشآتها النووية للوكالة الدولية للطاقة الذرية وحملات التفتيش المفاجئة والدائمة، رغم تصلّبها في مسألة تخصيب اليورانيوم. وتشير تلك الأوساط إلى عقدة ثانية تراوح مكانها، بين مطلب طهران رفع كل العقوبات في شباط (فبراير) المقبل، والتوافق الغربي على رفعها تدريجاً خلال عام 2015.
وإذا كان بعض الذين يحاولون تقويم نتيجة الجولة المحمومة من المفاوضات النووية، يعتبرون أن طهران لم تكسب ولم تربح، رغم حرص أوباما وروحاني على طيّ الملف وفتح صفحة التطبيع، فالأكيد في كل الأحوال أن شعار الرئيس الإيراني «ربح للجميع» دونه أشواط طويلة… لها يستعد المتشددون في الجمهورية الإسلامية والجمهوريون في الكونغرس، واللوبي الإسرائيلي.
ولكن، هل يعني ذلك أن المناطق المضطربة من العراق إلى سورية واليمن ولبنان، ستشهد اندفاعة إيرانية جديدة، للضغط على الأميركيين وتسريع الماراثون الذرّي؟
قائد «الحرس الثوري» محمد علي جعفري ما زال مصراً على تفعيل المخارج والحلول: «لولا فكر المقاومة لما انتصرت الثورة في اليمن، ولولا تصدير فكر المقاومة من الثورة الإسلامية إلى العراق وسورية ولبنان، لما كان مصير هذه الدول واضحاً». وهو واضح بالتأكيد، بدليل المجازر في سورية وفوضى التفجيرات، و «سلطة داعش» وحربها في العراق، والوطن المعلّق في لبنان على حبل الفراغ، واليمن غير السعيد بضياعه بين الحوثيين و «القاعدة».