منتصف الثمانينيات، زمن التلزيم الأميركي الكامل للبنان إلى سوريا الأسد ــ على قاعدة التشخيص الشهير لوزير خارجية ريغان الشهير، جورج شولتز، بأننا بلد مصاب بالبرص ــ يومها كانت ثمة لازمة ثابتة في الخطاب اليومي لواشنطن حيال الأوضاع في بيروت. كل صباح كان يخرج على اللبنانيين ومحيطهم والعالم، صوت ما من العاصمة الأميركية ليكرر اللازمة: «نحن مع وحدة لبنان واستقلاله وسيادة دولته وسلامة أراضيه»… حتى صارت تلك المزحة سمجة.
فبادر أحد المسؤولين اللبنانيين يومها إلى سؤال نظير له أميركي: لماذا تدأبون على تكرار تلك العبارة، فيما العالم كله بات يدرك أنها بالنسبة إليكم بالذات فارغة من مضمونها ولا معنى لها إطلاقاً؟ فسكت المسؤول الأميركي ثواني قليلة، قبل أن يجيب صديقه اللبناني: «هل تريدون منا أن نقول إننا ضد وحدة لبنان واستقلاله؟!».
طبعاً تغيرت الظروف بين ذلك الزمان الرديء والراهن الأكثر رداءة. غير أنه رغم ذلك، يظل ثابتاً أن كلام وكيل وزارة الخارجية الأميركية، توماس شانون، إلى اللبنانيين في بيروت قبل يومين، ليس من نوع الكلام الأميركي في الثمانينيات. قال شانون لنا ما مفاده: يمكننا أن نعدكم بالمساعدة في أكثر من ميدان: الإرهاب، تسليح قواكم الشرعية، النازحون… لكن لا يمكننا مساعدتكم في انتخاب رئيس جديد للجمهورية… نعم، الصحيح أن واشنطن عاجزة فعلاً، حتى اللحظة، عن إحداث أي تغيير في أزمة الشغور الرئاسي. فهي تدرك تماماً أن اللاعبين الرئاسيين في بيروت قسمان: قسم لا علاقة لها بهم. من حزب الله إلى سوريا وإيران. وقسم تربطها بهم علاقة، لكنها لا تقدر على التأثير عليهم هذه الأيام. وهو فريق الرياض تحديداً. حتى إن بعض الذين رافقوا شانون في زيارته الأخيرة، همسوا سراً: «لقد حاولنا مرة واثنتين وخمساً مع السعوديين، من دون جدوى ولا جواب». هذا لا يعني طبعاً أن الرياض صارت عدوة واشنطن. غير أن الملعب الذي يلعب عليه السعودي اليوم، يمتد من صنعاء إلى بيروت، على الأقل. مروراً بكل عواصم الخليج، وبغداد وطبعاً دمشق. وبالتالي فهو ينتظر من الأميركي أن ينسّق معه خطواته في كل زاوية من هذا الملعب. بينما في المقابل، كيف تصرف الأميركي معه؟ انسحب فجأة من جبهة عدن، بعد عام ونيف على انتقاده اللاذع للسعودي هناك. لم يقل له ماذا سيفعل في بغداد. تركه في حيرة مقلقة في دمشق، وسط اتصالات مكوكية بين موسكو وأنقرة وطهران… ويأتي بشكل مزاجي عشوائي متقطع، ليسأله عن بيروت. فيما السعودي لا يرى بيروت إلا آخر أولوياته. وهو بالتأكيد لن يقبل أن يعطي الأميركي فيها أي ثمن، ما دام يعتبر المنطقة الممتدة من المتوسط إلى الخليج، سلسلة أوانٍ مستطرقة لمياه هاتين البحيرتين…
وسط هذه المعادلة ــ التي أكدها الفرنسي والمصري وكل من جرب ــ باتت مسألة الانتظار اللبناني لخطوة خارجية لعبة عقيمة عبثية. أو على الأقل، فإن آجالها أطول حتماً من قدرة لبنان على الحياة في احتضاره الراهن. لذلك، تبدو التطورات اللبنانية مفتوحة على ضرورة مقاربتها انطلاقاً من حسابات أهل بيروت وحدهم، ووفق أربع مراحل زمنية:
مرحلة أولى عنوانها أن يحسم سعد الحريري قراره الرئاسي. وهو أمر تبدو المؤشرات متناقضة حياله. البعض يقول إنه ذاهب في هذا الاتجاه، وإنه أطلق ذقنه كاملة وذهب إلى تركيا، كخطوتين في هذا الاتجاه، لمن يلتقط أسرار التخاطب بالإشارات. فيما آراء أخرى تجزم بأنه حسم قراره في الاتجاه المعاكس، وأنه لن يقدم على بت أي استحقاق رئاسي، وهو ذاهب إلى انتخابات نيابية في الربيع المقبل، وبقانون الستين، وسيخرج منها وعبرها من مأزقه المتعدد الأبعاد.
المهم، أنه بعد استنفاد ورقة انتظار الحريري، تبدأ مرحلة ثانية، عنوانها أن يتفق عون مع نبيه بري. صحيح أن بين القطبين تراكماً يفوق القطبين الجليديين. وبينهما «زق صحون» وبهلوانيون ولاهثو أدوار ألعبانيون أساؤوا بشكل فادح للرجلين. لكن الصحيح أيضاً أنه بعد استنفاد زمن الحريري رئاسياً، سيكون بري وعون أمام حتمية استنفاد زمنهما الآخر. قد يكون البعض من هذا المقلب، يتهم بري، بعد شغور الرئاسة وغياب رفيق الحريري وانكفاء وليد جنبلاط، بأنه صار يرى نفسه، لا رجل النظام الأقوى، بل رجله الوحيد. فكيف يقبل بشراكة فيه بعد؟ وكيف إذا كان الشريك اسمه ميشال عون؟! وقد يكون بعض آخر في المقابل، يتهم عون بأنه لا يزال يعيش في زمن الجمهورية الأولى، وأنه بمعزل عن النصوص والدستور والأعراف وموازين القوى، يكفي أن يجلس الرجل على رأس الطاولة حتى يعيد الزمن ثلاثة عقود إلى الوراء… لكن أيّاً تكن الاتهامات، يبقَ أكيداً أن على بري وعون، في لحظة قريبة، أن يحسما علاقتهما وماذا يريدان معاً وعلام يقدران معاً. بعدها، تبدأ مرحلة ثالثة…
إذا فشل الحريري، وإذا فشل بري وعون، نصير أمام عنوان هو ما قبل العنوان الأخير: الوصول إلى قانون انتخاب جديد، قبل الربيع الانتخابي. قانون يحفظ النظام من الكابوس المطلق. هنا يصير الجميع أمام هذا الواجب. إذا تخلفوا عنه، تضحي المرحلة الرابعة حتمية: إذا وصلنا إلى حزيران 2017، بلا الرئيس الميثاقي، وبلا قانون الانتخاب الميثاقي، عندها، لن يكون العنوان «مرحبا حوار». بل ربما «مرحبا نظام». ومرحبا ميثاق ومرحبا بلد… وبالتأكيد كارثة القول: وداعاً أيها الطائف!