لم يخطئ الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الاستراتيجية وانما ارتكب خطأ فادحا في التكتيك يصيب الاستراتيجية المعتمدة بالتصدّع. وكل كبار المسؤولين في الادارة الأميركية لا يعارضون الهدف الاستراتيجي وهو نقل السفارة الأميركية الى القدس، وانما عارضوا الشكل والأسلوب الذي اتبعه ترامب في الاعلان عن هذا القرار. وترامب يعرف هذه الحقيقة، ولذلك آثر اتباع غريزته وأهواء شخصيته النرجسية والعنصرية التي تحتقر العرب وتعادي الاسلام. وقد استنسخ ترامب المشهد نفسه لدى توقيعه قرار نقل السفارة، عن مشهد توقيع أولى قراراته التنفيذية بمنع رعايا سبع دول اسلامية من الدخول الى الأراضي الأميركية! وفي الحالتين حرص على توقيع القرارين أمام عدسات التلفزة وعرضهما على الشاشة! وتوقيع ترامب يعكس شخصيته النرجسية، وهو توقيع يغطي بطوله عرض الصفحة التي يوقّع عليها، ويشبه في تعاريجه برج ترامب الشهير في نيويورك، ولكن مرسوم على الورق بشكل أفقي!
***
دهاة الادارة الأميركية كانوا يفضلون – بعد اعداد مسرح الشرق الأوسط لنقل السفارة دون مخاطر على الأمن القومي الأميركي – ان يدعو ترامب السلطة الفلسطينية والأنظمة العربية الحليفة واسرائيل، الى مؤتمر سلام في كامب ديفيد مثلا، ويحاط بالسرية التامة طوال فترة المفاوضات، ثم يخرج ب الحل دفعة كاملة! ويكون قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل، مغطى باعلان قيام الدولة الفلسطينية الكرتونية! وتبادل الأراضي وغير ذلك! وكان من شأن ذلك ان ينتزع الورقة من أيدي القوى العربية وغير العربية المعادية لاسرائيل، ويعطي للمتواطئين على الخطة حجة يدافعون بها عن انتصارهم بانتزاع اقامة الدولة الفلسطينية من براثن الصهيونية وأميركا، على حدّ زعمهم… في حين تكون هذه الدولة الفلسطينية مجرد وهم وخدعة وحبر على ورق!.. ولكن ترامب تسرّع، وقلب الطاولة على أميركا واسرائيل عمليا، بينما كان المطلوب في الأصل أن يقلب الطاولة على أعداء أميركا واسرائيل!
***
الاستراتيجية في الأصل مصطلح عسكري ويعني الخطة المرسومة سلفا للعمليات الحربية قبل انطلاقها وخلالها وبعدها. وهي في السياسة تعني مجموع الخطط في الميادين كافة للوصول الى هدف محدد سلفا، والخطط تتغيّر بحسب الظروف السائدة، ولكن الهدف يبقى ثابتا الى أن يتحقق. وبهذا المعنى كان للصهيونية استراتيجية ثابتة وفعّالة منذ المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال السويسرية عام ١٨٩٧ باقامة وطن قومي لليهود في فلسطين أو غيرها، وحققت هذه الاستراتيجية هدفها في ١٥ أيار / مايو ١٩٤٨ باعلان الكيان الاسرائيلي على أرض فلسطين. وخلال تلك الحقبة الممتدة على مدى ٥١ سنة لم يكن للفلسطينيين والعرب والمسلمين أية استراتيجية مضادة. وبعد قيام اسرائيل تمّ وضع استراتيجية ثانية هدفها السيطرة على كامل الأرض الفلسطينية بما فيها القدس عاصمة أبدية لاسرائيل، وطرد الفلسطينيين من فلسطين بأية طريقة من الطرق. وهي الاستراتيجية التي نعيش خواتيمها اليوم مع ترامب ونتنياهو! ومع ذلك لا يزال الفلسطينيون والعرب والمسلمون دون استراتيجية حتى الآن!
***
عندما يتحقق هدف الاستراتيجية الثانية لاسرائيل، فانها ستبدأ العمل لتنفيذ الاستراتيجية الثالثة الموضوعة سلفا تحت عنوان اسرائيل الكبرى… وبلادك يا اسرائيل من الفرات الى النيل! ومعنى ذلك ان كل البلدان العربية الواقعة بين هذين النهرين العربيين، معرض كل منها الى أن يكون فلسطين أخرى، بالاحتلال والتدمير والتمييز العنصري والتصفية والطرد! وهذه الاستراتيجية العدوانية الثالثة تشمل لبنان وسوريا والعراق والأردن ومصر في المرحلة الأولى، قبل أن تقفز في مرحلة تالية الى منابع النفط في الخليج! وهذا التصور ليس مجرد وهم أو هلوسة، بل هو خرائط موضوعة في الخزائن الى حين… وعلى الرغم من كل ذلك، لا يزال الفلسطينيون والعرب والمسلمون دون استراتيجية! وسيبقى أفقهم مظلما ومسدودا الى ان يأتي يوم يقررون فيه، هم أو شرائح من مجتمعاتهم، وضع استراتيجية علمية معاكسة، يكون هدفها الدفاع عن النفس من الأطماع المستقبلية لاسرائيل، وتكون نقطة البداية تحقيق هدف أسمى هو تحرير فلسطين من البحر الى النهر…
***
عندما توضع هذه الاستراتيجية العربية، عندها فقط سينعطف التاريخ في الاتجاه المعاكس!