يهدف مسلّحو «داعش»، و«جبهة النصرة» إلى الجغرافيا والديموغرافيا. أمنيتهم بقعة من الأرض يسيطرون عليها، يتحكّمون بمفاصلها، على أن تكون عرسال طريق الإمداد، وجسر التواصل مع الحكومة
قبل أيام استقبلَ المسلحون شاحنات التموين. يقال إنّ الوسيط القطري قد فرضها شرطاً للاستمرار في مهمته. إعتبروها مبادرة حسن نيّة، وردّوا على هذه التحية بلائحة من المطالب للإفراج عن العسكريّين، اللائحة على طاولة مجلس الوزراء، وأمام أعضاء خليّة الأزمة لتوفير الردّ المناسب.
الحكومة لها مرجعياتها الخارجيّة، ولا بدّ من استشارتها قبل أن تقرّر.
لا بدّ من التنسيق مع الولايات المتحدة. موضوع على هذه الدرجة من الحساسيّة والخطورة لا يمكن معالجته «كيف ما كان»، ومن زوايا داخليّة ضيّقة. ولا بدّ من الوقوف على خاطر السعوديّة، وإيران. وزراء «المستقبل» و»حزب الله» لا يقرّرون من عنديّاتهم، ولا يتفرَّدون باتخاذ قرارات على هذا المستوى من المسؤولية من دون الرجوع إلى المرجعيات الأم.
وهذه لها أولوياتها، وليس من مؤشّرات تفيد أنّ الرياض وطهران مضطرّتان إلى تقديم تنازلات، أو ضمانات لتسهيل مهمّات الحكومة في معالجة هذا الملف كما يجب. أمّا الولايات المتحدة الأميركية الممسكة جيّداً بالملف اللبناني ربّما لديها حسابات مختلفة عن حسابات الحكومة اللبنانية.
تُثير مطالب «داعش – النصرة» إشكالية العلاقة مع سوريا النظام. في السابق تمكّنَ المدير العام للأمن العام اللواء عبّاس إبراهيم من لعبِ دور «القطبة المخفيّة». إستقبلته دمشق ممثلاً رسمياً للحكومة، وتعاونت معه بإيجابيّة، ومكّنته من النجاح في مهمته في الإفراج عن معتقلي أعزاز، ثمّ عن راهبات معلولا.
اليوم الحسابات مختلفة، تراجعَت واشنطن عن مطلب تنحية الرئيس بشّار الأسد، وإسقاطه، تريده على طاولة الحوار في جنيف جنباً إلى جنب المعارضة المعتدلة لرسم خريطة الطريق نحو سوريا المستقبل. «صقور» السعوديّة تراجعوا من الواجهة الأمامية إلى الخطوط الخلفيّة، مع وصول عبد الفتّاح السيسي إلى هرمية السلطة في مصر.
إختلف الوضع، مصلحته تكمن في ترميم العلاقات العربيّة – العربيّة، وأن يرى في مقرّ جامعة الدول العربية، دوَلاً عربيّة. ليس من جامعة إن لم تشكّل مصر وسوريا والسعوديّة قاعدتها، يريد وصلَ ما انقطع بين الرياض ودمشق، والبدايات كانت موفّقة، وإنْ كان القرار صعباً وتشوبُه مداخلات خارجيّة وضغوط شتّى لإجهاض هذا المسعى.
وفّرت هذه المعطيات مناخاً في دمشق مختلفاً عن السابق. اللواء إبراهيم مرَحَّب به دائماً، ولكن لا يكفي. المطلوب من الرئيس تمّام سلام شخصيّاً، ثمّ من أعضاء حكومته المبادرة إلى فتح الباب على النظام. سياسة «النأي بالنفس» طواها الزمن. الرهان على إسقاط النظام لم يعُد متداولاً في أيّ من عواصم دوَل القرار المؤثّرة.
تسليح المعارضة السورية المعتدلة وتدريبُها هدفُه الوصول إلى نوع من التوازن وتكافؤ الفرص عندما تفتح أبواب جنيف مجدّداً أمام المفاوضات الجدّية. أنصار دمشق في لبنان يعلنونها صراحة: هناك بروتوكول تعاون، واتّفاقات مبرَمة بين البلدين، ومجلس أعلى، وحارسُه الأمين لبناني لا زال مؤتمَناً على الأمانة، فلتبادر الحكومة إلى فتح كلّ هذه القنوات بصورة طبيعيّة، ليُبنى على الشيء مقتضاه.
حجّة السورييّن قويّة، لأنّ الموقف اللبناني ضعيف. لسان حالهم يقول إنّ حكومة المصلحة الوطنيّة قدّمت أفضلَ ما عندها، ولكنّها لم تتمكّن من استعادة عرسال وجرودها، ولا من تحرير العسكريّين، بل دخلت مع المسلحين في مفاوضات غير مباشرة، تارةً عبر العلماء المسلمين، وطوراً عبر الموفد القطري، واستجارت يوماً بدور تركي، وأظهرَت في كلّ هذه المحاولات أنّها مستعدّة لتقديم تنازلات لتنجح المفاوضات.
الراعي الأميركي لم يقُل كلمته بعد، هل يبارك التفاوض، وهو الذي يعرف تماماً أنّ ما تريده «داعش» و«النصرة» ليس الإفراج عن إسلاميّي سجن روميّة، ولا النسوة المعتقلات في السجون السورية، بل الأرض والاستقرار عليها، وممارسة الدور والنفوذ، على أن تكون الواجهة لبنانية، وعرسال تحديداً. ويعرف الأميركي أنّ المفاوضات قد تؤدّي إلى الإفراج، مقابل صفقة مكلِفة، ولكنّها لا تزيل الدويلة، وإذا كان يرغب في إزالتها، عليه أن يكلّف النظام بهذه المهمّة… ودمشق تنتظر!