فرنسا تدخل في تجربة لا سابق لها. لا في تاريخ الجمهورية الخامسة وما قبلها من جمهوريات وامبراطوريات. ولا في تاريخ القارة العجوز وتقاليد العمل السياسي في بلدان الاتحاد الأوروبي. إذ هي تعطي كل السلطة لمن ليس لهم تاريخ سياسي. ففي أميركا يمكن ان يصل الى البيت الأبيض رجال من دون خبرة سياسية: مزارع فستق من الجنوب اسمه جيمي كارتر، ممثل سينمائي من الدرجة الثالثة اسمه رونالد ريغان الذي صار حاكم كاليفورنيا قبل الرئاسة، وقطب عقارات اسمه دونالد ترامب. والحجة الشائعة ان أميركا أرض الاحتمالات اللامحدودة ولم ترث الطبقية من بريطانيا. لكن نانسي ايزنبورغ أصدرت مؤخرا كتابا تحت عنوان الرعاع البيض: ٤٠٠ سنة من تاريخ لم يُرو عن الطبقية في أميركا أكدت فيه بالوقائع بؤس الطبقة العاملة البيضاء نفسها.
أما في فرنسا وكل أوروبا، فان لعبة السلطة تدور بين الأحزاب. هذه المرة حدث العكس. الناخبون عاقبوا الأحزاب التقليدية واختاروا للرئاسة مرشحا شابا قليل الخبرة من خارج اليمين واليسار هو ايمانويل ماكرون. ثم أعطوا الأغلبية في البرلمان لمرشحين مجهولين باسم حزب أسسه ماكرون قبل سنة وأعاد تسميته الجمهورية الى الأمام. وهو ليس حزبا بالمعنى الفعلي لجهة المبادئ والتنظيم بل تيار اندفع فيه كارهو الأحزاب أو أقله خائبو الأمل فيها.
لماذا؟ لدعم الرئيس الشاب بأغلبية تمكّنه من تنفيذ برنامجه. ومن الصعب القول انهم في موقف واحد من البرنامج الذي تراه نقابات العمال والطبقة الفقيرة والطبقة الوسطى نيوليبرالية في خدمة رجال الأعمال. فلا هم يعرفون بعضهم بعضاً أو شاركوا في تجربة واحدة. ولا هم يعرفون ماكرون الذي التفوا حوله. ولا أحد يعرف كيف ستكون تجربتهم العملية في السلطة.
ذلك أن رأسمال ماكرون ووزرائه ونوابه هو غضب الناخبين ويأسهم من أداء الحزب الاشتراكي وحزب الجمهوريين الديغولي في مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية. لكن توظيف هذا الرأسمال بأيدي مجهولين يمسكون بمقاليد السلطة في جمهورية الهواة ليس ضماناً لنتائج أفضل مما حدث على أيدي الأحزاب الخاسرة.
فضلاً عن ان النسبة المرتفعة للإمتناع عن الإنتخاب توحي ان رفض المحترفين والهواة معاً يأتي من أكثر من نصف الناخبين. فهم في غضب على القديم، ولا مبالاة حيال الجديد. شيء من التعب والسأم، وشيء من فقدان الأمل في حل المشاكل. فلا الرهانات على ماكرون سوى مغامرة. ولا إصلاح الإتحاد الأوروبي، كما يريد ماكرون، مهمة سهلة بين ٢٧ دولة.
حتى مواجهة الإرهاب الذي يضرب في باريس ولندن، فإنها مسألة بالغة التعقيد على مسرح خطر في أوروبا وخطير في الشرق الأوسط.