بَلطَجَ يُبلطِج بَلطَجَة، فهو مُبلطِج، يعني يعتدي على الآخرين، قهراً، مِن غير وجه حقّ. البَلطَجَة كلمة أصلها تركيّ، جرى تعريبها، إذ شاعت في بلادنا، وهي مركّبة مِن لفظتين: بلطة وجي، أي صاحب البلطة. الآن، وقد ولّى زمن البلطة، وجاء زمن المُسدّس، فربما جاز لنا أن نُسمّي حامله، قياساً على المصطلح الأوّل، “المُسدّسجي”.
بينما تجلس، ليلاً، على أحد مقاعد “كورنيش” عين المريسة في بيروت. يأتيك، بهدوء، ويقف أمامك. لا ينطق بكلمة. يَنحني قليلاً ويدسّ يديه في جيبَيْ بنطالك، ثم يرفعك نحوه، محاولاً إدخال يديه أكثر. تُبعِده، غريزيّاً، وتسأله مَن أنت؟ لن ينطق. يضع يده على خصره، فيَظهر كعب مُسدّسه. حسناً، إنّه “أحد المُسدّسجيّة”. سيتّضح، لاحقاً، أنّه أحد عناصر مفرزة “استقصاء بيروت” في قوى الأمن الداخلي. يَزداد عنفاً، فتزداد إصراراً على معرفة مَن يكون، فهو، فضلاً عن عدم إبرازه أيّ بطاقة، لا يُريد أن يُعرّف عن نفسه بأيّ لفظٍ. كان واحداً، أصبحوا الآن أربعة، نزلوا مِن السيارة وأيديهم على مسدّساتهم. ثيابهم مدنيّة. رئيس الدوريّة، كمّا عرّف أخيراً عن نفسه، يصرخ: “ولك بدك تتفتش حتّى مِن دون ما تعرف نحن مين. شو فاهم؟ وبعدين مينك أنت لحتى عم تعنطز هيك”. الرجل مستغرب مِن “العنطزة”. تخبره باسمك، كمواطن صالح أولاً، وعن عملك كصحافي. يَكاد يَضربك، يلوّح بيده قرب وجهك، شاتماً: “خـ… عليك وعلى الصحافة”. لا بأس، لكن ماذا عن المواطن؟ لم يَشتم الوطن. سيل مِن الإهانات تتعرّض لها، مِن قبل “ابن الدولة” (دولة؟)… لمجرّد أنّك سألته مَن يكون. لا شيء يُميّزه عن ممتهني أعمال السلب الذين ينتحلون صفة أمنية، الذين ترد حوادثهم، يوميّاً، إلى القوى الأمنيّة نفسها، وهؤلاء يَحملون مسدّسات أيضاً، ومع ذلك لا يُريدك أن تسأله من يكون! حصل هذا قرابة منتصف ليل الأربعاء ــ الخميس الفائت. الشهود على ذلك كُثر. ميليشوي السلوك، في النبرة والألفاظ والإهانات، في السكنات والحركات، وحتّى في تبختر مشيته. هذا هو “رجل الأمن” الذي وظيفته أن يَحميك ويُوفّر لك “الأمن”.
يُغادرون. ثوانٍ ويتحلّق حولك عدد مِن روّاد “الكورنيش” البحري، بعضهم مِن صيّادي الأسماك، ويقولون لك: “يُنصر دينك فشّيتلنا خلقنا”. لشدّة ما أذلّتهم تلك “العصابة الأمنيّة” باتوا يَرون مُجرّد الاعتراض عليهم، بسؤالهم عن صِفتهم، إنجازاً هائلاً. لقد اعتاد هؤلاء أن يُضربوا مِن قبل “أولاد الدولة”… لهذه الأسباب. يُمطرونك بعدد الحوادث المُشابهة، شبه اليوميّة، التي حصلت هناك وفي أماكن أخرى. كثيرون جرت “دعوستهم” هناك. الناس تكرههم. تنفر مِنهم. يعرفون “بلطجتهم” جيّداً. متى، أصلاً، أحبّ الناس في بلادنا “رجال الشرطة”؟
كم ستكون سيّئ الحظ إن تعرّضت لموقف كهذا مرتين في مدّة وجيزة. قبل نحو شهرين، في منطقة الطيونة، وأنت ذاهب إلى منزلك، ليلاً، تبطئ سيّارة الى جانبك، قبل أن “تكسر” وتقطع عليك الطريق. تأخذك الوهلة، بداية، لتفهم ما الذي يَحصل. تأخذ لمحة سريعة مِن وجوه ركّابها الأربعة، تشعر بأنّك تحلم، تتخدّر قليلاً، كلّ هذا يحصل في أجزاء مِن الثانية. تعود إلى وعيك مع فتح أحدهم باب السيارة وركضه نحوك، فتستدير وتأخذ في الركض سريعاً، كأسرع ما ركضت في حياتك، على وقع “خرطشة” المُسدّس خلفك. تصل إلى مقهى قريب، على الرصيف، وتدخل بين الزبائن. يصل “المُسدّسجي”. غريب! لو كان “سلّيباً” لوجب ألا يلحقك إلى مكان عام. يقف بعض الزبائن بينك وبينه، قبل أن يَلحق به رفاقه، فيصبحون أربعة، ومعهم مسدّساتهم. بعد سيل الإهانات والشتائم التقليديّة، يُعرّفون عن أنفسهم. ثيابهم مدنيّة، سيارتهم “نيسان” مدنيّة، بلوحة تسجيل مدنيّة… إنّهم مِن “استقصاء بيروت”. تطلب مِنهم رؤية بطاقة عملهم الرسميّة. يسحب أحدهم بطاقة ثم يُرجعها إلى محفظته في حركة خاطفة. لا تكاد ترى مِنها شيئاً. أحد زبائن المقهى يَعرفهم. يَطلب مِنك ألا تجزع. يأخذون بطاقة هويّتك. يتأكدون أنّك “المواطن الصالح”… ثم يَرحلون. أحدهم، قبل رحيله، يَغمزك ساخراً، ويقول لك: “هالمرّة رح نمرّقها كرمال أبو فلان”. يضحك مبتعداً. ماشي، شكراً لـ”أبي فلان” الذي أنقذنا مِن جريمة اسمها “لا شيء”.
عندما تُخبر الأصدقاء وزملاء العمل عمّا حصل لك، تكتشف أنّك أمام مُسلسل، لا حادثة فرديّة، وأنّ للآخرين أيضاً حوادثهم المُشابهة، التي حصلت أخيراً. الفاعل هو المجموعة نفسها: “استقصاء بيروت”. إذاً، نحن أمام “ظاهرة”. لنكن واقعيين، لسنا أمام شيء غير مألوف عندنا، كلبنانيين، فهذه الظواهر، أو الموجات، تتضاءل وتتفاقم بين حين وآخر، وبالتالي فإنّ المُستجدّ الآن هو تفاقمها… بوقاحة لافتة. قبل نحو تسع سنوات، كتب الزميل عمر نشابة في “الأخبار” مقالاً حمل عنوان: “مَن هم هؤلاء المسلّحون باللباس المدني في الشوارع؟”. ذكر فيه أكثر مِن حادثة، موثّقة في تقارير أمنيّة رسميّة، ومِنها هذه: “خرج مواطن برفقة صديقته، الثالثة والنصف فجراً، مِن ملهى في شارع مونو، وعندما استقلّا سيارتهما فاجأهما شخص مسلّح عرّف عن نفسه بأنه رجل أمن، وطلب منهما أن يطفئا ضوء السيارة الداخلي. أنزل الشاب من السيارة بالقوة وأخذ يضربه، ثم شهر عليه مسدساً وقال إنهما كانا في وضع مشبوه، وحاول سلب ما في حقيبة يد الفتاة. ورغم مقاومتهما، تمكن من سلب مبلغ من المال منها ثم اعتدى عليها جنسياً”. هل كان رجل أمن فعلاً، أم منتحل صفة؟ مَن يدري؟ كيف نعرف؟ بالمناسبة، ربّما نصوص القوانين ليست جليّة في هذه المسألة، ولكن يمكن استلهام روح المُشرع هنا مِن المادة 47 مِن قانون أصول المحاكمات الجزائية، التي تفرض على أشخاص الضابطة العدليّة أن “يطلعوا النيابة العامة على ما يقومون به من إجراءات، ويتقيدوا بتعليماتها، ولا يحق لهم تفتيش منزل أو شخص إلا بعد استحصالهم على إذن مسبق مِن النيابة العامة”. هذا في الإجراءات، بحسب النص، التي تكون “خارج الجريمة المشهودة”… فكيف الحال مع “لا جريمة” أصلاً؟
لا يبدو أن ثمّة ما تغيّر في سلوك، أو ثقافة، هذا الصنف مِن رجال الأمن عندنا، الذين يصعب تمييز بعضهم عن أيّ “عصابة أشرار” أخرى. بالتأكيد لا تعميم هنا. واضح جدّاً عن أيّ “نوعيّة” نتكلّم. يحصل ذلك رغم عشرات دورات “الشرطة المجتمعيّة” التدريبيّة، أو التأهيليّة، التي خضع لها عناصر قوى الأمن الداخلي، على مدى السنوات الماضية، تحت إشراف ضبّاط مِن الشرطة الأميركيّة. أين نتيجة تلك التدريبات؟ الشرطة الأميركيّة، بالمناسبة، ليست الأفضل في العالم، إذ نسمع دوماً عن سلوكيات التعسّف “والعنصريّة” تجاه بعض مواطنيهم. أفلام “هوليوديّة” كثيرة أضاءت على هذه المسألة. يبدو أنّ علينا التسليم، قهراً، بحقيقة أنّ الشرطة، في أيّ مكان في العالم، تبقى هي الشرطة. قد يكون الفارق في الكم لا في النوع. الكم الخُلقي، إن جاز التعبير. هكذا، ما نفعله الآن هو طلب “كميّة” أكبر من الأخلاق، مِن احترام رجال الأمن للناس. هذا كلّ ما في الأمر، علماً بأنّه “مش كل مرّة بتسلم الجرّة”… إذ قد يحصل أن يبادر أحدهم إلى إطلاق النار على رجال الأمن هؤلاء، وهم في ثيابهم المدنيّة، دفاعاً عن نفسه، وستكون حجّته قويّة قضائيّاً، نظريّاً أقلّه، إذ نعيش في بلاد تعجّ فيها حوادث “السلب المُسلّح”.