في حديث الذكريات، يذكر ميشال عون أن جذور عائلته تعود إلى بلدة المكنونية (قضاء جزين). يحفظ حقها بصورة عتيقة يعلقها في منزله. صورة لضيعة كان اسمها خلخيا، وهدمها زلزال. هناك ولد نعيم عون، والد الجنرال. إلا أن تأريخ ذاكرته يبدأ من الضاحية. لا يذكر في أي عام حلّ والده في الشياح. لكن شقيقه الأكبر إلياس ولد فيها عام 1932، ثم ولد الأولاد الخمسة (أصبح ترتيب ميشال الثاني بعد وفاة شقيقة ولدت قبله). من بيت مستأجر في الطبقة الأرضية في الشياح إلى طبقة أخرى لدى حنا واكد في بستان ثم إلى الرويس. حتى عام 1976، استقرت العائلة في حي كنيسة مار يوسف في حارة حريك، قبل أن تأخذها الحرب الأهلية بعيداً. حينها، كانت الضاحية قد سرت في شرايين سنوات ميشال عون الواحدة والأربعين. في الشياح ولد. وتيمناً بالجارة، كنيسة مار مخايل، سمي ميشال. بينها وبين المشرفية وبرج البراجنة والرويس وطريق صيدا القديمة، أزهرت طفولته. في مدرسة اللعازارية خلف الكنيسة، تعلّم في الروضة والابتدائي ثم انتقل إلى مدرسة الفرير في فرن الشباك ليدرس المرحلة المتوسطة. على الأقدام، كان يسير إلى مستديرة شاتيلا أو الطيونة ليجد سيارة أجرة تقله إلى فرن الشباك أو يقطع المسافة كلها مشياً أحياناً. المشقة ذاتها كان يتكبدها للوصول إلى مدرسة القلبين الأقدسين في الجميزة حيث درس البكالوريا، قسم الرياضيات. للضاحية لمساتها في دربه نحو الكلية الحربية. لم يخترها حباً، بل لأن ضيق حال العائلة لم يسمح له بدخول الجامعة اليسوعية لدراسة الهندسة.
احتاج أن يستقل مادياً باكراً، فاختار الحربية ونجح عام 1952 في امتحان دخول أقيم في النادي العسكري. لضمان النجاح، نصح بتأمين «واسطة» من النائب هنري طرابلسي الذي كان يقيم في منطقة بئر العبد. رفض لأنه «إذا نجحت بربّحني جميلة مدى الحياة، وإذا رسبت بيقولوا شدّينا فيه بس ما طلع منو. بالنتيجة رح أدفع حق شغلة: إما إهانة وإما تربيح جميلة».
في كنيسة الحارة، تكلّل الضابط عريساً لناديا الشامي عام 1968. خدمته في الجيش، أبعدته إلى بعلبك حيث أقام مع زوجته. ثم أعادته إلى صيدا. الحوادث الأهلية أبعدت العائلة كلها إلى «الشرقية». الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، أدخل عون إلى مسقط رأسه، مسؤولاً عن القوى التي شكلت اللواء الثامن، حتى اندلاع انتفاضة 6 شباط عام 1984. يستعيد بفخر أن تلك القوى التي كانت منتشرة من خط الطيونة الى شاتيلا ومن مستديرة المطار الى برج البراجنة «أنقذت الحارة والبرج والمخيم من الإسرائيليين. كلها ما فات عليها ولا اسرائيلي عند دخولهم إلى المخيمات». بقي عون في الضاحية مع هذه القوى حتى عام 1984، ليغادرها مع اندلاع انتفاضة 6 شباط.
بعدها، ارتفعت المتاريس، مبعدة عون عن الضاحية. عاد إليها عام 2005، ليقترع في دائرة نفوسه في حارة حريك. لكنها لم تكن الضاحية نفسها التي تركها: أين دكان أبو حمزة في الرويس الذي كان يتصل من هاتفه لأنه «لما صار عنا تلفون اوتوماتيك كنت تخرجت من الحربية»؟ أين صنوبرة بئر العبد وأحراج الصنوبر يميناً ويساراً؟ أين العودات (البساتين)، بستان المشنوق وبستان غصن وجل البلح لآل كنعان وبيوت صوما واللادقي والطرابلسي والشيخ عبدالله شبير…؟ أين مزرعة العائلة حيث عربش على الأشجار وتعلم من والده أصول الزراعة؟
اضمحلّ أثر الضاحية على الأرض، لكنه ثابت في تكوينه. فيها، جبلت الأحداث طينته التي صنعت منه «العماد ميشال عون».
المحطتان اللتان يستعيدهما تلقائياً: احتلال جيش حكومة فيشي في الحرب العالمية الثانية ووصول اللاجئين الفلسطينيين. لمّا يكد يبلغ السابعة، عندما شاهد الرشاشات المضادة وقصف الطائرات ومرور الجنود حول منزل العائلة. المشهد الأقسى، اقتحام جنود استراليين وفيتناميين البيت في منتصف الليل. «طردونا وناموا على فرشنا ونحن جلسنا طوال الليل تحت الشجرة». مشهد آخر، جندي سنغالي يلاحق امرأة، «أخذت تصرخ وأنا أصرخ». يتابع ساخراً: «ساعتها، بلشت حب الجيوش الأجنبية». المحطة الثانية التي صدمت الفتى ميشال، استقبال الفلسطينيين. «كأولاد، صرنا نساهم في المساعدة. نحمل لهم البطانيات ونساعد في نصب الخيم. كانت مشاعري تتراوح بين الحشرية والعطف».
في بيت الضاحية، فقد عون ألبومات صوره التي احترقت في حارة حريك، والاسطوانات الموسيقية التي كانت تشكل «ديسكوتيك» صغيراً وتحوي أغنيات أسمهان وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب بداية، ثم الرحابنة في وقت لاحق. الذكريات تلازم الجنرال. لكنه يحرص على القول إنه يتفقدها ولا يعيشها «لأنني لا أزال أفكر بالمستقبل، ولا أتوقف عند الماضي»!