ضابطان سوريّان خطّطا لاستهداف عاصمة الشمال
هكذا نفّذت «مجموعة رمضان ـ علي» تفجيري «التقوى» و «السّلام»
انتظر أهالي شهداء تفجير «مسجدي التقوى والسّلام» طويلاً، حتّى يجاهر القضاء اللبنانيّ بأسماء قاتلي أبنائهم. ظنّ البعض منهم أن مرور السّنوات يعني إخفاء معالم الجريمة الإرهابيّة وهويّات فاعليها، إلّا أنّ الأمر لم يمرّ مرور الكرام، إذ بعد مضيّ ثلاث سنوات وتسعة أيّام على الجريمة، أصدر قاضي التّحقيق لدى المجلس العدليّ آلاء الخطيب قراره الاتّهامي بحقّ 21 مدّعى عليه، بينهم 8 موقوفين أو مخلى سبيلهم أبرزهم منفّذ تفجير «السلام» يوسف دياب، وواحد فقط هو علي عيد ممّن سقطت عنهم دعوى الحقّ العام تبعاً للوفاة بعد اتّهامه بتهريب أحد منفّذي التفجيرين.
الأبرز في خلاصة القرار هو تورّط ضابطين سوريين هما: النقيب آنذاك في المخابرات السوريّة ـ فرع فلسطين محمّد علي علي الملقّب بـ «أبو جاسم» (عمره حوالي 30 سنة من بلدة خربة المعري السوريّة) والمسؤول في فرع الأمن السياسي ناصر أحمد جوبان (مواليد 1970) وملقّب بـ «أبو خالد»، بالإضافة إلى عنصر المخابرات السوريّة خضر لطفي العيروني (سوري عمره حوالي الـ 40 سنة).
وإذا كان القرار أشار إلى أنّ محمد علي كان له دوراً قياديّاً في اتّخاذ القرار وتسهيل التنفيذ، فإنّ قاضي التحقيق لدى المحقق العدلي لم ينكر أنّ «التحقيقات دلّت على منظومة أمنيّة مخابراتيّة عالية الموقع داخل المخابرات السوريّة، وهي التي أعطت الأمرة وشاركت في التّخطيط والمساعدة والتنسيق لإتمام التفجيرين، بحيث استطاعت التحقيقات وخصوصاً الفنيّة والتقنيّة، كشف بعض المتورّطين الصغار فيها. فيما لم تتوصّل التحقيقات إلى أدلّة موثقة بحق الأمنيين والضباط الآخرين ذات الرتب الرفيعة المتورطين في عمليّة إعطاء الأمرة والتّخطيط والتنسيق والمساعدة على التّفجير».
.. هكذا انتصر القضاء للضحايا وأهاليهم بعد أن ادّعى قاضي التحقيق على بعض المدّعى عليهم بمواد تصل إلى الإعدام، بالإضافة إلى تسطير مذكرة تحر دائم لمعرفة كامل هويّات الضباط والأمنيين في المخابرات السوريّة (من ذوي الرتب الرفيعة) المتورطين في الجريمة ليُصار إلى ملاحقتهم، خصوصاً أن المتهمين كانوا يتصلون بأرقام مشبوهة خلال التخطيط والتنفيذ من دون تمكّن المحققين من إثبات هويّات مستخدميها.
بالطّبع لم يستند القاضي العدلي في قراره إلى الإفادات الأوليّة والاستنطاقيّة التي نفى فيها معظم الموقوفين اعترافاتهم، فحسب، بل إنّه حاول العودة في غالبيّة الأوقات إلى التحقيقات الفنيّة والتقنيّة التي قامت بها «شعبة المعلومات» في قوى الأمن لتثبيت الاعترافات بالوقائع.
ويلاحظ أنّ المتورطين من المخابرات السوريّة، ولأسباب غير مفهومة، لم يكتفيا بتأمين مجموعة واحدة لتنفيذ التفجيرين، وإنّما فاتحا مجموعتين بالموضوع، الأولى مع مسؤول العلاقات العامّة في «حركة التّوحيد» أحمد غريب، والثانية مع أحد المشايخ في جبل محسن حيّان رمضان.
«مجموعة الاحتياط»
هذا الأمر تحديداً ساعد المحققين على البدء بكشف خيوط الجريمة خصوصاً عندما وردت معطيات إلى «المعلومات» تشير إلى أنّه لدى مصطفى حوري معلومات مهمّة تتعلّق بالتفجيرين وأنّه يشتبه بتورّط غريب فيها، على اعتبار أنّ الاثنين على علاقة عمل في مجال استثمار وتأجير «SNG» إلى بعض وسائل الإعلام في سوريا.
ولذلك، فاتح غريب حوري أكثر من مرّة بموضوع الانتقام من شخصيّات معادية للنّظام السوريّ وعلى رأسها: الشيخ سالم الرافعي من خلال جلب سيّارة مفخّخة في طرطوس أو قرب الحدود اللبنانيّة ـ السوريّة، ثمّ وضعها أمام «مسجد التّقوى» لاغتيال الرافعي. وبالإضافة إلى الأخير، أسرّ غريب لحوري أنّ كلاً من: الوزير أشرف ريفي والنّائب خالد الضاهر والنائب السّابق مصطفى علّوش والعقيد المتقاعد في الجيش عميد حمّود، هم على لائحة الاستهداف من قبل النّظام السوري، بالإضافة إلى التّخطيط لخطف شيخ بغية استهداف المعتصمين المستنكرين لخطفه لاحقا.
هذه الأفكار لم تكن من «بنات أفكار» غريب، بل كان الرّجل ينسّق فيها مع النقيب علي الذي طلب أن تتولّى «حركة التوحيد» تصفية الرافعي «بسبب إرساله المقاتلين والسّلاح إلى سوريا»، ومطالباً بمفاتحة رئيسها الشيخ هاشم منقارة بالأمر والذي سارع إلى رفض الطلب (يؤكّد منقارة في إفادتيه أنّ غريب لم يفاتحه بالموضوع).
وبهدف التخطيط، التقى الضّابط السوري غريب أربع مرّات في مكتبه أو في أحد المطاعم حيث تمّ استخراج صور جويّة لموقع «التقوى» عبر «غوغل»، وتحديد المسافات الداخليّة للمسجد من حائطه إلى المنبر، ليتم تقديرها بحوالي 10 إلى 15 متراً، واستقرّ الرأي أنّ يتمّ وضع السيّارة على الطّريق العام بمحاذاة المسجد لاستهداف الرافعي، على أن يكون التنفيذ يوم جمعة. فيما اقترح غريب أن يكون يوم التّنفيذ الإثنين كونه اليوم الذي يقوم فيه الرّافعي بإعطاء دروس الدين لتلامذته داخل «التّقوى».
كان من المفترض أنّ يتصل غريب بعلي يوم السبت أو الأحد لمتابعة باقي تفاصيل عمليّة التنفيذ، غير أنّه لم يفعل ذلك إلّا بعد أيّام حينما لم يعد النقيب السوري يردّ على اتصالاته قبل أن يرسل له رسالة نصيّة: «شو وعودك يا شيخ. لما صرنا بالجدّ صار الحكي صعب. الله المستعان»، ليردّ غريب: «السّلام عليكم، أنا لم أقصّر أبداً ولم أتأخّر عنك أبداً من يوم اتصالي بك يوم الإثنين وأنا منتظر اتصالك كما طلبت مني. أنا لي يومين أتصل بك».
كيف خطّطت المجموعة
لاستهداف المسجدين؟
بقي الرّجل على وعوده، حتّى سمع بحصول «تفجيري التقوى والسّلام». في هذا الوقت كان الضابط السوري نفسه قد وجد «زبائن» آخرين: مجموعة الشيخ حيان رمضان الذي قام بتنسيق عمليّة إحضار السيارتين المفخختين بتاريخ 21 آب 2013 (أي قبل يومين من وقوع التفجيرين)، وقبلها قام بالتّواصل مع كل من: يوسف دياب، أحمد مرعي، ثكينة إسماعيل، سلمان أسعد، بالإضافة إلى أرقام سوريّة ولبنانيّة مشبوهة لم يتعرّف المحققون إلى مالكيها.
وفي التفاصيل، أنّه قبل أسبوع من حصول التفجيرين اصطحب رمضان أحمد مرعي وسلمان أسعد بجولة في طرابلس ومرّوا بالسيارة أمام المسجدين، حيث أشار رمضان إلى المسجدين وشرح الطرق والمنافذ إليهما، وصار يتحدّث عن الظّلم والمعاناة التي يتعرّض لها أهالي جبل محسن وضرورة الانتقام عبر تفجير المسجدين.
وبعد أن نال موافقة المجموعة النهائية، توجه كلّ من: رمضان مع يوسف دياب وأحمد مرعي وزوجة أبيه ثكينة إسماعيل وولديه، عبر القبيات إلى البقاع، حيث عرّجوا على منزل حسن جعفر قبل أن ينتقلوا جميعاً إلى منطقة جرديّة على الحدود السوريّة فيها ساتر ترابي ومن دون أن يعمل الحاجز السوريّ هناك على تفتيشهم أو استجلاء هوياتهم.
وبعد دقائق قليلة، أتت 3 سيارات من ناحية سوريا: سيارة «فورد» و «انفوي» وثالثة لون أبيض. ترجّل سائقا سيارتي «فورد» و»انفوي» وعادا أدراجهما إلى الدّاخل السوريّ بالسيارة البيضاء التي كان سائقها ينتظرهما. ثمّ قام دياب بقيادة السيارة «فورد» ومرعي بقيادة الـ«انفوي» وسارا خلف سيارة عائدة لجعفر من نوع «رابيد» واكبتهم لمدّة 10 دقائق بغية تأمين مرورهم ثم عاد إلى قريته.
وتابع الباقون سيرهم إلى عكّار، حيث تناولوا الطعام في أحد المطاعم بحضور ثكينة إسماعيل والولدين وسلمان أسعد، وعادوا إلى جبل محسن لركن السيّارتين أمام منزل رمضان.
وفي اليوم الثاني، حضر دياب ومرعي وخضر شدود وأسعد إلى منزل رمضان، حيث قام الأخير بتوزيع الأدوار ليتم تنفيذها في اليوم التالي: يتولى دياب قيادة السيارة المفخّخة من نوع «فورد» ويتبعه شدود على متن درّاجة ناريّة، ليقوم الأوّل بركن السيّارة أمام «مسجد السّلام» ويعود أدراجه على متن الدراجة مع شدود. أما دور مرعي فكان ركن سيّارة الـ»انفوي» أمام «مسجد التقوى» والعودة على متن الدّراجة التي كان يقودها أسعد.
ولم يهتم رمضان بالأدوار اللوجستية فقط، وإنّما طلب من دياب وشدود وضع نظّارات شمسيّة وقبعة، فيما يقوم المدّعى عليه مرعي بارتداء زيّ رجل دين باكستاني، للتمويه وإخفاء معالم الوجه.
وفي اليوم التالي، أي يوم تنفيذ التفجيرين، حضر دياب وشدود ومرعي وأسعد إلى منزل رمضان باكراً، حيث قام الأخير بتسليمهما جهاز تحكّم عن بعد للتفجير وهو بطول 7 سم ومجهّز بلاقط (ANTENA) ويحتوي على زرّ تفجير وزر تشغيل (ON – OFF)، بالإضافة إلى جهاز خلوي من نوع «سامسونغ» يحتوي على رقم واحد في سجلّ المكالمات.
وشرح لهما رمضان أنّ جهاز التحكم يعمل فقط ضمن مسافة 300 متر، وفي حال تخطّي هذه المسافة بينهم وبين السيّارة المفخّخة، يتوجّب عليهما استخدام الجهاز الخلوي من خلال الاتصال بالرقم الموجود في سجلّه، وعند قطع الاتصال يتمّ التفجير.
وهذا فعلاً ما حصل. اتجّه الرجلان بالسيارتين المفخختين من جبل محسن باتجاه جسر الملولة ثم دوّار أبو علي فشارع المئتين وصولاً إلى شارع الميناء حيث موقع «مسجد السّلام». وبعد أكثر من دورة، قام دياب بركن السيّارة في المكان المطلوب، وعاد على متن الدّراجة مع شدود، قبل أن يستخدم الهاتف من نوع «سامسونغ» واتصل بالرقم المحفّظ الذي فصل فدوّى الانفجار.
وهذا أيضاً ما فعله مرعي عندما دوّى انفجار «مسجد التقوى» وعاد مع أسعد على متن الدراجة إلى جبل محسن.
أدوار «ثانويّة» في الجريمة
يكمن دور الضابط الثاني في المخابرات السوريّة ناصر جوبان بأنّه كان على تواصل مع أنس حمزة الذي يملك محلّاً لبيع الهواتف الخلوية في المصنع، وأرسل له رسالة بضرورة التواصل مع رقم مشبوه كان يتواصل معه رمضان بشكلٍ مكثّف خلال التخطيط لتنفيذ التفجيرين وتوقّف التواصل لحظة التنفيذ.
وكان دور عنصر المخابرات السوريّة خضر لطفي العيروني الذي كان على تواصل دائم مع الضابط محمّد علي، هو شراء السيارتين المفخختين والمساعدة على نقلهما إلى سوريا لتفخيخهما، بعد أن ثبت من الاعترافات و «داتا الاتصالات» استخدامه رقماً لبنانياً تواصل من خلاله مع أكثر من شخص قبل أن يشتري الـ «فورد» من شخصين من آل شمص.
كما تبيّن أنّ العيروني تلقى عبر رقمه السوريّ الثاني رسائل عن بعض السيارات وأسعارها ومن ضمنها رسالة من شخص من آل ماهر حسين يعرض عليه فيها شراء «انفوي» موديل الـ 2005 وسعره 5600 دولار أميركي.
واعترف سائق علي عيد أحمد العلي بأنّ رئيس «الحزب العربي الديموقراطي» اتصل به يوم الإثنين من شهر تشرين الأوّل 2013 وطلب منه الحضور فوراً من بلدته الحيصا إلى منزله في حكر الضاهري، حيث قال له: «بتروح من هون لجبل محسن وبتجيب أحمد مرعي من بيتو وبتجي لعندي فوراً»، ليعلم أن عيد ينوي تهريب مرعي إلى سوريا.
وأشار شحادة شحود (والد خضر شحود) إلى أنّه التقى بابنه في سوريا بعد أن هرّبه صاحب مطعم «البيطار» المدّعى عليه سمير حمود، لافتاً الانتباه إلى أنّه (أي شحادة) قام بتهريب ثكينة إسماعيل إلى سوريا مقابل 550 ألف ليرة لبنانيّة من دون علمه بتورّطها في التفجيرين.
والمفارقة أنّ غالبيّة الموقوفين تراجعوا عن إفاداتهم الأوليّة التي اعترفوا فيها بتورطهم بالتفجيرين، إذ سارع غريب مثلاً إلى الإشارة إلى اسم علي مملوك، مشيراً إلى أنّه كان يتواصل مع مكتبه لتسهيل أموره وأمور «حركة التوحيد» وليس مع أي ضابطٍ آخر، قبل أن يلفت الانتباه إلى تواصله مع الضابط محمّد علي!
أما دياب، فقد حاول المراوغة في البداية بأنّه كان يمرّ بالصدفة أمام «مسجد السلام» حينما دوى الانفجار وتعطّلت سيارته ليذهب مع خضر شدود على متن الدرّاجة النارية، إلا أنّه عاد واعترف أنّه كان موجوداً حينما نقل رمضان السيارتين المفخختين من الحدود إلى جبل محسن وأنّه من ركن السيارة أمام المسجد، مشيراً إلى أنّه لم يكن على علم أنّها مفخّخة!
أمّا الباقون، فقد أنكروا ضلوعهم في التفجيرين.