فجأة عاد مسلسل الاشتباكات المتنقل ليستوطن مخيم عين الحلوة. وقائع ما حدث خلال الايام القليلة الماضية، يُوحي في الظاهر بأنّها مجرّد اشتباكات فردية استدرَجت فعلاً وردود فعل ثأرية، وهي تبدو مفهومة انطلاقاً من أنها تتغذّى من واقع مخيم للاجئين الفلسطينيين الذي يعيش أوضاعاً ديموغرافية ومعيشية وأمنية ضاغطة جداً.
خلال محاولة الاستقصاء عما يجري بدا واضحاً أنّ هناك ميلاً لدى فصائل المخيم والاجهزة الامنية اللبنانية للإيضاح بأنّ ما يحدث هو مجرّد إشكالات فردية وأنّ كلّ شيء تحت السيطرة. على أنّ «الإيضاحات الآنفة» لا تُعبّر عن حقيقة الوضع الراهن للمخيم والتي يتم التستر عليها لأسباب معروفة.
الواقع أنّ قصة ما يحدث في عين الحلوة، كما هي محفوظة الآن في أدراج الجهات المسؤولة والمتابعة للوضع فيه، لخصتها مصادر موثوقة لـ«الجمهورية» بالمعطيات الآتية:
أولاً- خلال الفترة الاخيرة، طرأ داخل هذا الملف تطوّر أساسي وخطر جداً تمثّل في رصد اتجاه جدّي لدى «داعش» لإقامة تنظيم مستقل له داخل مخيم عين الحلوة. وتفيد المعلومات في هذا الصدد، أنّ ما بين ٢٥ الى ٣٠ عنصراً ينتمون الى «داعش» دخلوا أخيراً الى مخيم عين الحلوة، وذلك بالتسلّل عبر بوابته المخصّصة للمشاة والمؤدّية اليه من جهته الشرقية، والمعروفة بـ«شارع قصب».
وتجدر الملاحظة أنه عند بوابة «شارع قصب» هناك حاجز ونقطة تفتيش للجيش اللبناني، ولكنّ كثافة العبور والخروج اليومي عبرها من المخيم وإليه، تجعل ضبطه أمنياً بكامله مسألة مستحيلة مهما ارتفع مستوى يقظة جنود الحاجز اللبناني.
وتوكد هذه المعلومات أنّ عناصر «داعش» الذين تسلّلوا الى المخيم، ليسوا جميعاً من الجنسية الفلسطينية، بل إنّ الامر المثير للريبة أنهم يضمون عناصر من جنسيات عربية، وهؤلاء جاؤوا الى المخيم من سوريا.
ويفيد ملخص عملية رصد دخولهم الى عين الحلوة، أنهم اجتازوا فرادى وعلى دفعات وسيراً «شارع قصب» الذي يفضي مباشرة الى المخيم من طرفه الشرقي، حيث يقع على بعد عشرات الامتار الى داخل المخيم من حدود تلك الجهة اللبنانية معه، منزل اسامة الشهابي المصنف أمنياً بأنه أمير جماعة «الشباب المسلم»؛ وهي التسمية التي أطلقتها قبل نحو عامين مجموعات تكفيريّي عين الحلوة على ائتلافهم ضمن إطار تنظيمي واحد (جند الاسلام وفتح الاسلام، الخ).
ويبدو أنّ هؤلاء الداعشيين الوافدين الى المخيم، لجأوا بداية الى تجميع أنفسهم في منزل الشهابي، وعندما اكتمل عقد عددهم، اتجهوا مجموعة واحدة للتمركز في «حي حطين» الذي تسيطر عليه مجموعة بلال بدر المطلوب للقضاء اللبناني بتهمة انتمائه وتشكيله جماعة ارهابية تكفيرية.
وتعرض تفاصيل اضافية عن وصول مجموعة «داعش» الى المخيم، لملاحظات لوجستية مهمة تُسلط الضوء على وقائع تتعلق بأساليب عملها الراهنة لإنجاز مهمة بناء التنظيم المستقل في مخيم عين الحلوة. وتكشف أبرز هذه الملاحظات أنّ الشخص الذي ينسّق مهمة هذه المجموعة، هو «هلال هلال» الرجل الثاني في مجموعة بلال بدر.
وفيما يُعتبر بدر الذراع العسكري والتنفيذي الاول لائتلاف «الشباب المسلم»، فإنّ هلال يُعتبر حالياً الرجل التنفيذي المنتدب من بلال بدر لمساعدة عناصر «داعش» لبناء حيثيتهم التنظيمية المستقلة في المخيم. ويحاول هلال بالتنسيق مع العناصر غير الفلسطينية (من جنسيات عربية) إقناع رموز ومجموعات من داخل «الشباب المسلم» بالالتحاق بتنظيم «داعش» قيد الإنشاء حالياً في عين الحلوة.
وتتمثل ابرز محاولة بسعي هلال هلال لإقناع «عماد ياسين» احد مسؤولي «جند الشام» الكبار وأخطر المطلوبين للقضاء اللبناني بترك تنظيم «الشباب المسلم» والالتحاق بمشروع «داعش» في المخيم.
والسؤال الامني التقني الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو عما اذا كان تنظيم «الشباب المسلم» بكليته يساعد «داعش» على بناء جسم تنظيمي له في المخيم، بهدف جعل إطاره موازياً له، ما يتيح امكان تبادل بينهما داخل مشروع اخذ المخيم الى حال تشبه ما هو عليه الوضع الآن في مخيم اليرموك السوري الذي يسيطر عليه منذ اكثر من عام مناخ «داعش» العقائدي والعسكري.
أما الاحتمال الثاني فيفسر علاقة بلال بدر بـ«داعش» على أنها تعبر عن وجود تواطؤ من عناصر داخل جماعة «الشباب المسلم» على رأسهم بدر ومساعده هلال هلال، لإحداث انقلاب داخل «المشروع الاسلامي التكفيري» في المخيم يؤدي الى تسييد «داعش» على رأسه، تماماً كما حصل في اليرموك السوري الذي نجح «داعش» في دخوله والسيطرة عليه من خلال تواطؤ مجموعات من «جبهة النصرة» معه ضد بقية المجموعات الاسلامية التي كانت تسيطر على المخيم كـ»نصرة ابو محمد الجولاني» و»أجناد بيت المقدس» وهما مزيج من بقايا حركة «حماس» وبقايا مناصرين شخصيين لخالد مشعل.
ثانياً- تقول المصادر المتابعة للوضع الراهن في عين الحلوة، إنه لا يمكن النظر الى الاشتباكات الاخيرة المتّسمة شكلاًَ بأنها ذات طابع فردي، بمعزل عن ظاهرتين اثنتين استجدّتا داخل المخيم خلال الفترة الاخيرة، أولها أنّ مناخ «داعش» اصبح ذا حضور قوي داخله، وثانيها دخول المجموعة الداعشية الجديدة الى المخيم ما يشي بأنّ المعلومات عن أنّ «داعش» يتجه الى بناء تنظيمه المستقل فيه، ولإنشاء سياق من الأحداث يقلب كلّ معادلته الامنية والسياسية رأساً على عقب، هو امر لم يعد من قبيل «التقدير النظري» للموقف، بل اصبح سياقاً واقعياً يجب التحسب له والتحرك عملياً واستباقياً لقمعه. ويتداول حالياً داخل الكواليس المتابعة لوضع المخيم «تقدير موقف» يحذّر من أنّ «داعش» وحلفاءه من التكفيريين الموجودين أساساً في المخيم يستعدون لتنفيذ عمل أمني كبير داخله.
وضمن هذا السياق تلفت مصادر مطلعة إلى أنّ كلّ جهود تعاون الدولة اللبنانية والسلطة الوطنية الفلسطينية خلال الاعوام الاخيرة لبناء صمامات أمان تحول دون انزلاق المخيم لانفجار داخلي، قد فشلت.
فميثاق الشرف الذي وقعته الفصائل الفلسطينية لعدم التعدي بعضها على بعض، انهارت مفاعيله، بدليل الاحداث الاخيرة، كما أنّ «القوة الامنية المشتركة» التي أُنشئت من كلّ الفصائل الفلسطينية الاسلامية والوطنية لتمارس دور «شرطي» ردع تجاوزات التكفيريين ومنع توسع انتشارهم في المخيم أو دخول مزيد منهم اليه، أثبتت انها غير قادرة على لعب دورها؛ والاسباب كثيرة، ابرزها أنّ القوى الاسلامية المشاركة في «القوة الامنية المشتركة» لا تبدي جدية في مواجهة الاسلاميين التكفيريين ووضع ضوابط صارمة لحضورهم داخل المخيم.
واكثر من ذلك بات هناك اقتناع بأنّ «عصبة الانصار» التي هي «رقم الامن الصعب والوازن» في عين الحلوة غير جدية في مساعدة «القوة الامنية» على لعب دورها في التصدي لتجاوزات المجموعات التكفيرية، لأنها لا تريد في لحظة صعود مناخ «داعش» في المخيم، الظهور كمَن تقوي المشروع الوطني الفلسطيني ضدّ المشروع الاسلامي السلفي الجهادي الفلسطيني.
ويعكس هذا الامر استنتاجاَ اكثر خطورة وهو أنّ الأجواء السلفية الفلسطينية في المخيم بدأت خلال الفترة الاخيرة تتخلّى عن تموضعها في مناخ «السلفية الدعوية والجهادية» والمتطلعة لتوجيه جهدها حصراً لنصرة القضية الفلسطينية، وذلك لمصلحة التموضع في مناخ السلفية الجهادية التي تقرأ في خطاب «داعش» الداعي الى توجيه كلّ جهد السلفيين لمصلحة خدمة تعميم مشروع «خلافة الرقة» وإنشاء تجارب على شاكلتها في كلّ أصقاع العالم وبينها لبنان.
ثمّة في هذا الاطار واقعة رمزية ولكنها عميقة ولافتة تفسر نوعية الاشكالية الخطرة التي تواجه مخيم عين الحلوة اليوم، والتي تستتبع تأثيرات على مجمل معادلة الامن في محيطه اللبناني، وقوامها أنه منذ نحو ثلاثة أعوام أوصى مدير مخابرات الجيش اللبناني في الجنوب بالسماح لـ«أبو شريف» عقل المعتبر العقل المدبر لـ«عصبة الانصار» بزيارة حديقة بلدة مارون الرأس الحدودية المطلة على منطقة الجليل الفلسطينية المحتلة؛ وكان الهدف من ذلك توفير فرصة لعقل لكي يرى منطقة الجليل بأم العين.
عندما عاد عقل الى المخيم اعترف بأنه للمرة الأولى يرى فيها بلده فلسطين على رغم أنه بلغ العقد الخامس من عمره. والرسالة التي أرادت مخابرات الجيش تركها آنذاك للعصبة أنه عليها الحفاظ على وجهتها وهي فلسطين، لأنّ ذلك أولاً يحمي قضيتها كتنظيم فلسطيني قبل أن يكون سلفياً إسلامياً، وثانياً لأنّ ذلك يُجنّب عين الحلوة الدخول في متاهة النزاع البيني العربي الذي سيجعله يواجه احد مصيرين لا ثالث لهما: إما مصير مخيم نهر البارد الذي اخذه تنظيم «فتح الاسلام» التكفيري الى مقامرة إنشاء خلافة فيه ما قاد الى تدميره، وإما الى مصير مخيم اليرموك في دمشق المدمّر الآن بجزء كبير منه والذي لا يزال يعيش نكبة تداعيات سيطرة «داعش» عليه.