هكذا واجه اللبنانيون أزماتهم عبر العصور السابقة
جمهورية معرّضة للخراب والنجاح والأزمات
والتفاهم قاعدة أساسية للوجود السياسي
أغمض الرئيس تمام سلام عينيه، بعد اجتماع طويل مع وزرائه، عشية انسداد الأفق أمام الحلول المتوخاة لانقاذ لبنان من الوقوع في وهاد التقسيم، واقتنع بثلاثة أمور ماثلة أمامه:
أولاً: المحافظة على وحدة لبنان، في ظل الانقسام في التركيبة السياسية.
ثانياً: لا بد من حل لأزمة الشغور في الموقع الرئاسي الأول، ذلك أن مرور عامين على الفراغ، لا يعني أو يجب ألا يعني تعذر الحفاظ على وحدة الدولة.
ثالثاً: لا بد من مخرج للأزمة، يفضي الى وحدة البلاد لا الى تقسيمها، أو الى تقاسمها بين اللبنانيين.
واستعاد تمام سلام رباطة جأشه، وأدرك أن حكومته تضم ٢٤ وزيراً، يشعر كلٌ منهم أنه بمثابة رئيس للجمهورية، أن المخرج المتاح أمامه هو بقاء حكومته لا الاستغناء عنها.
بعد أربع ساعات، زاره وزير بارز في مكتبه في السراي الكبير، وبادره بأن بين منزله في دار المصيطبة ومكتبه في الدار التي أعاد الرئيس الشهيد رفيق الحريري ترميمها بعد الحرب، أسطورة إسمها لبنان، وهي عصيّة على التقسيم، وعصيّة أيضاً على التوحيد. وأردف: هذا البلد عجيب أمره، فهو لا يمكن توحيده بالكامل، ولا يجوز تقسيمه بالكامل. إنه بلد البين بين.
فهم تمام سلام ما يعنيه زائره، في أواخر الليل: هل تطلبون من رئيس حكومة كل لبنان، أن يختار المناصفة بين الوحدة والتجزئة؟
وردَّ زائره: هذا هو لبنان الآن. وهكذا كان والدكم دولة الرئيس صائب سلام يعالج أموره، وعندما طالب بإقالة قائد الجيش اسكندر غانم، بعد اقتحام كوموندوس اسرائيلي الشطر الغربي من بيروت، ومقتل ثلاثة زعماء كبار من قادة منظمة التحرير، لم يوافقه على طلبه رئيس الجمهورية سليمان فرنجيه، فترك صائب بك الحكومة في منتصف الطريق.
وأضاف: في ذلك اليوم لم تسقط الحكومة، بل سقط التفاهم التاريخي بين الصديقين والحليفين الكبيرين: فرنجيه وسلام.
وتابع الزائر حديثه: ثمة في لبنان رئاسة جمهورية معطلة، ورئاسة مجلس النواب مشلولة، ورئاسة حكومة منهارة.
وهذا اللبنان وحده المؤهل للحياة، والبقاء، وإلا انهار كل شيء على رؤوس الجميع. أمامنا جمهورية تعيش في أزمة شغور.
ولا أحد يفكر في انقاذها، الا اذا كان هذا الانقاذ ينقذه شخصياً، لا ينقذ البلاد وحدها. وأنا كنت ساهراً، عشية ولوج الاسرائيليين الى بيروت، وقيامهم باغتيال الزعماء الفلسطينيين الثلاثة، يومئذٍ رنَّ الهاتف في مكتب رئيس الجمهورية سليمان فرنجيه، وكان على الخط صائب بك سلام، الذي بادره بأن اطلاق النار، مردّه خلاف بين جماعة ياسر عرفات، والقوى المؤيدة لجورج حبش، والعناصر المماشية لنايف حواتمه. ولذلك فقد اعترض رئيس الجمهورية على طلب صائب بيك بإقالة قائد الجيش من منصبه، لأنه هو، أي رئيس مجلس الوزراء، كان يجهل مَن يطلق النار تحديداً.
من هنا قولي إن التفاهم التاريخي بين أركان السلطة، هو الحل الذي لا بديل منه في معظم الأحيان.
قبل سنة من الآن، كان تمام سلام يستقبل في دارة المصيطبة العشرات من الزوار، وبيده قلم وورقة يسجل عليها مطالب الناس.
كان خارج المنزل وزير البيئة محمد المشنوق، يتحدث الى بعض زوار الزعيم البيروتي، فقال له أحد الزوار: هل دولته يعالج الأمور وحده، وليس عنده وزراء يستعين بهم؟
وردًّ وزير البيئة: هو رئيس مجلس الوزراء، ومعظم الوزراء يعكفون على معالجة الأمور معه. ووزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس هو الذي اختاره، ووزير البيئة حليفه سياسياً وبيروتياً.
والحكومة مؤلفة من ائتلاف سياسي، وليست مكوّنة من لون واحد أو من فريق محدد. واذا كانت الحكومة تتعرض أحياناً لكبوات سياسية وتتداخل عليها صراعات، فلأن من طبائع الحكم أن يشهد تباينات في مواقف عديدة، وهذه هي عناوين أزمات الانترنت ومشاكلل النفايات، والصراعات حول طبيعة بعض الأحزاب والمواقف الأمنية.
والبلاد التي عرفت هذه الفضائح والكوارث ليست نقية من الصراعات، بل ان من طبيعتها أن تظهر على رقعتها هذه المعاناة الصعبة بين فترة وأخرى.
ويقول العارفون بالأسرار، إن الانتخابات البلدية، جاءت بشكل مفاجئ للجميع، ولعلها فرصة متاحة لعدة أشياء: للتغيير السياسي حيناً، وللتجديد في الأساليب المعتمدة أحياناً، وبغية اللجوء الى معايير جديدة لبلورة مفاهيم غير معتمدة في السابق.
صحيح أن الانتخابات البلدية، تختلف عن الانتخابات النيابية، لكن لكل أزمة أسلوباً في المعالجة، كما ان لكل تجديد في العمل والنهج لوناً جديداً، يُضفي على الأسلوب طابعاً جديداً أيضاً.
كان الرئيس كميل شمعون يقول إن الرتابة تقتل المعالجات، وهي إن صحت أو أخطأت فإنها تعني عدم الرضوخ للخطأ إن وُجد، أو للتحسين والتجويد، اذا ما نجمت عن الأزمات السائدة، ظروف تبرر التغيير وهذا ما يسمونه التفعيل لا التمجيد، لأن الاشادة بما تحقق، قد تكون أحياناً أحد معايير التغيير، ولو بالصدفة!
صحيح، أن الانتخابات تالبلدية، ممر لا بد منه الى التغيير في الوجوه، لكن الرتابة فرضت نفسها، من خلال لجوء بعض العناصر والقوى السياسية، من خلال حرصها على اعادة ترشحها للمراكز التي شغلتها، أو عبر ائتلاف بعض القوى في صفوف معينة.
كما ان التحالف الذي تحقق في المناطق المسيحية والاسلامية، بين بعض القوى أفرز معايير جديدة وتكتلات غير ممنهجة سابقاً، في مناطق كبيرة، ولا سيما بين حزب الله وحركة أمل على الصعيد الشيعي، وبين تيار المستقبل من جهة ونجيب ميقاتي ومحمد الصفدي وعبد الرحيم مراد على الصعيد السني، والقوات اللبنانية وتيار الاصلاح والتغيير على الصعيد المسيحي، والوزير الشيخ بطرس حرب والوزير ميشال فرعون وحزب الكتائب اللبنانية علي الصعيد الماروني.
هل كانت هذه الأمور سائدة في السنوات الماضية؟
طبعاً لا، وإن كان بعضها يظهر أحياناً في بعض المناطق.
وقبل نصف قرن برزت فكرة التقسيم كما تبرز الآن أفكار الفيدرالية والكونفيدرالية، الا ان وجه المعركة الآن، ينطوي على أساس المناصفة في الأعضاء المسلمين والمسيحيين، بحيث يكون في المجلس البلدي لمدينة بيروت أربعة وعشرون عضواً نصفهم مسيحي والنصف الأخر من المسلمين.
وهذا قرار نظري لا إلزامي، وهذا ما جعل الرئيس سعد الحريري يشدد، على غرار والده الشهيد رفيق الحريري، على احترام المناصفة خصوصاً من جانب المسلمين، وهم الأكثرية الساحقة من الناخبين في مدينة بيروت.
وفي حين التزم المسيحيون ولا سيما التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية بقرار المناصفة، واتخذوا قراراً مسبقاً بتأييد لائحة البيارتة فإن ثمة فريقاً لا يستهان به من العلمانيين والمدنيين، يخوضون المعركة بمبادئ جديدة، لكنهم سيكونون مسؤولين عن انهيار المناصفة في انتخابات العاصمة.
وهذا امتحان دقيق لرجاحة كف العناصر الواعية لأهمية المناصفة ولعدم الانجرار وراء المزايدات الطائفية.
وهذا القرار هو في حد ذاته انتصار لمنطق الرئيس سعد الحريري، وانتصار ثانٍ لمنطق القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، والدكتور سمير جعجع قال صراحة، إن هذه التجربة قد تكون الأخيرة، اذا جرى الإعراض عنها، ولم يتم الالتزام بها.
ويقول العارفون بالأسرار إن ثمة إصراراً من معظم الطوائف على الالتزام ب المناصفة في معظم دوائر بيروت.
ويرى كثيرون مبرراً للخوف على سلامة المقاطعة من قبل عناصر أذكى التطرّف من شرودها عن الأصالة السياسية المناوئة للتطرف، ويرون في ذلك، ضربة قاصمة للتقسيم وللفيدرالية، وان كانت فكرة التقسيم مجرد ردّ فعل وليست مشروعا من المشاريع المطروحة فلا بدّ من تبيان شرورها ومخاطرها، منعاً لتطورها من رد فعل الى قرار سياسي. ذلك ان التقسيم، أولاً لا يبدّل في طبيعة الطغيان الأكثري في المنطقة أو يحدّ منه. بل على العكس من ذلك، يستثيره ويشعله، ويمكنه من الاستيلاء على نصف لبنان، أو على بعضه، فاذا هو في عقر الدار بدلاً من ان يكون على الأطراف.
وبالمقابل، التقسيم يعني انكفاء وتراجعاً من قبل الحضور المسيحي الى مواقع دفاعية أقل مناعة وأكثر منالاً: سياسيا، واقتصاديا، وثقافيا، وحضاريا، وأمنيا. مع ما يستتبع ذلك من تقلّص في قدراته هذه المحدودة، وفي المكان والعدد، وفي الامكانات الطبيعية والانسانية بوجه عام.
إنها بلا ريب، أفضل الصيغ للمجتمعات المتعددة الانتماءات الحضارية والدينية والإثنية. وهي أيضا من أرقى الممارسات الديمقراطية في هذا العصر. وهي بالنسبة الى لبنان، بوصفه مجتمعاً مركّباً، صيغة مثلى. ولكن تطبيق هذه الصيغة يرتهن بشروط عدة أهمها هذا الشرط.
فلكي يعتمد لبنان، أو أي مجتمع آخر، اللامركزية أو الفيدرالية، فمن البديهي أن تكون مقبولة من الجماعات المتعددة وغير مرفوضة من قبل بعضها.
بمعنى آخر، اذا كانت مقبولة من قبل فريق، ومرفوضة من قبل فريق آخر لا تعود واردة. وهي، في مطلق الأحوال، ميثاق، أو عقد اجتماعي يقتضي ان تتوافر، في حال لبنان، إرادتان على الأقل… ارادة المسيحيين، وارادة المسلمين. أما إرغام أحد الفريقين عليها فتقسيم. والتقسيم، أساسا شرّ، بل شرّ كبير.
ويقول خبراء في السياسة، ان مشكلة لبنان هي نفسها مشكلة الأقليات في الشرق، أو ما كان يُعرف ب المسألة الشرقية، لأن الأكثرية الاسلامية كانت طاغية، سواء ذلك بارادتها أو بغير ارادتها، لذلك فإن خطراً دائما من هذا القبيل على لبنان، وبالتالي على الوجود المسيحي فيه بوجه عام.
ومن الطبيغي ان يشكّل ذلك، انسحاباً مسيحياً، من نصف لبنان على الأقل، وتراجعاً وانكفاء، وبالتالي تنازلاً نهائياً عن هذا النصف.
ومن الطبيعي أيضاً ان تصبح المناطق الاسلامية، أكثر حرية في التعامل مع الأكثرية الاسلامية في المنطقة وأكثر تضامناً معها، فيكون الحضور المسيحي في هذه الحال، أقوى وأشدّ وأقرب أيضا الى قلب لبنان.
وفي هذه الحال، فان التقسيم، اذا كان سراً، كما هو واضح ومتفق عليه، واذا كانت اللامركزية السياسية، أو الفيدرالية ترتهن بإجماع عليها لم يتحقق بعد، ولا يبدو أن تحقيقه ممكن في المستقبل القريب على الأقل، ولأن اللامركزية السياسية المفروضة بشكل أو بآخر، تؤدي بشكل أو بآخر، الى اضعاف الحضور المسيحي بدلاً من تعزيزه وتنمية قدراته.
لهذه الأسباب ولغيرها يجب ان تأخذ خطة حماية لبنان من الطغيان الأكثري في المنطقة، وبالتالي، حماية الوجود المسيحي فيه والحضارة بوجه عام، اتجاهاً آخر يهدف الى بسط سيطرة المؤمنين بلبنان مجتمعاً حضارياً منفتحاً ومتميزاً على أكبر رقعة من أراضيه، والأفضل على كل أراضيه، فتمر هذه الخطة بالمراحل التالية:
المرحلة الأولى: تأكيد السيطرة على المناطق الموصوفة بالمناطق الحرة، وتعزيزها وتنميتها باستمرار.
المرحلة الثانية: الانطلاق نحو المناطق الأخرى، بعد إحياء الوجود المسيحي فيها، ثم تعزيز هذا الوجود وتنميته أيضاً باستمرار وتوسيع رقعته الى أقصى الحدود.
المرحلة الثالثة والأخيرة: قيام الدولة الديمقراطية الحقيقية، على أرضية ثابتة، وقدرة دفاعية ذاتية أكيدة، تجعل لبنان أكثر قوة ومناعة في مقاومته للطغيان الأكثري الملازم لطبيعة هذه المنطقة.
ويمكن اختصار هذه المراحل، أو استعجال اجتيازها، أو تجاوز بعضها اذا أحسن اللبنانيون تنظيم صفوفهم وجهودهم وبتنمية ذاتهم، واستقطاب التأييد والدعم لقضيتهم.
وانه لمن المسلّم به أن تحقيق هذه الأغراض وغيرها يتطلب أداة تنفيذية دائمة وفعّالة. فأياً كان الحل، وكانت الصيغة فالخوف يبقى خوفاً في قصر النظر، وقصر النفس كما يقال، ومن الفردية اللبنانية وفقدان الروح الجماعية. الأمر الذي يهدّد الصفوف اللبنانية، عاجلاً أم آجلاً، بالتفكك، وبالتالي، التخلّي التدريجي عن المهمة التاريخية.
فهل يستطيع المؤمنون بلبنان وطناً للحرية والانسان، ان يكونوا صفّاً واحداً، وأن يعبئوا الجهد كله، وكل الامكانات والطاقات لخلق هذا الوطن؟ إننا مدعوون الى مواجهة هذا التحدّي التاريخي، باجتراح تنظيم وطني يكون هو الاطار الدائم لتجميع الجهد وضبطه وتوظيفه، بأقل ما يمكن من الهدر فيه والتبذير، في خدمة الهدف النهائي.
ويجب أن يكون هذا التنظيم جامعاً لكل المؤمنين بهذا الوطن، حيثما كانوا، وحيثما أقاموا بصورة دائمة أو مؤقتة. وأن يقوى باستمرار على مخاطر الاختلاف السياسي أو الفئوية على أنواعها، والأنانية بكل أشكالها.
فالى أي مدى تشكّل الجبهة اللبنانية التي أنتجتها الحرب، هذه الأداة، أو هذا التنظيم؟
الراهن أن الجبهة ليست التنظيم المطلوب، دون أن يعني ذلك بأنه لا مبرر لوجودها. بل على العكس من ذلك، يجب أن تبقى، وأن يعاد النظر في بنيانها وتكوينها لكي تصبح أكثر فعاليةوأكثر قدرة على البقاء.
وفي خلاصة هذه الدراسة، فإن الشعب اللبناني، المقيم والمغترب، يعتبر ان بناء الدولة مسألة تتطلب الإلتزام بحقوق الإنسان، والمكرّسة في المناطق والمبادئ العامة للقانون اللبناني، وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، على نحو ما طرحه ونادى به العالم اللبناني والوزير السابق للخارجية الدكتور شارل مالك، من العام ١٩٤٣ الى العام ١٩٥٧، وهو المعروف ب شرعة حقوق الإنسان وما شدد ععليه في حقبة السبعينات مع قوى الجبهة اللبنانية، وجسدته مواثيق دولية شتى، مما جعله منارة حضارية ودولية.
انطلاقاً من هذا التراث، وهذا الإلتزام، وبموجب سلطته التأسيسية العليا، يقرّ الشعب اللبناني هذا الدستور، في ظل المعرفة، ويكون الدستور، روحاً وتطبيقاً، على قدر ما نصّ، وفي ظل احترام المجموعات الحضارية والتي تعيش معاً على أراضي وساحات لبنان كله.