تتكفّل التسريبات الإعلامية المنبعثة من هنا وهناك، بملء السكون الحاصل على خطّ الحوار العوني – القواتي. مناخ سلبي تسرّب فجأة من فجوات الجليد الذي تكوّم على طريق الرابية – معراب، وأوحى بإقفال باب جلسات التفاوض الطويلة التي راهن كثر على خاتمة سعيدة تنهي صراع «الأشقاء» المزمن.
لكن ابراهيم كنعان وملحم رياشي ما زالا يتحصنان بإيجابية مطلقة تحول دون تسلل الوحول إلى مجاري الحوار، وتدحض الأقاويل التي دفنت التواصل المسيحي – المسيحي حتى قبل ولادة ورقة النيات شبه الجاهزة. يرفضان جملة وتفصيلاً أي سيناريو إلغائي لخطّ التواصل القائم بينهما، ويصران على رفده بمزيد من الأوكسيجين… وكأنّ شيئاً لا يحصل.
وبينما ينأى ميشال عون بنفسه عن التعليق سلباً أو إيجاباً على التطورات الحاصلة، المرئية منها وغير المرئية، اختار سمير جعجع إحياء «مضبطة الاتهام» بتعطيل الاستحقاق الرئاسي، بعدما جزم مغرّداً، بأنّ ثمة خلافاً حول هذه المسألة استدعى وضعها جانباً.
عملياً، ماذا حصل خلال الأيام القليلة الماضية؟
يوم قصد النائب المتني «القلعة الكسروانية» متحدياً «ويندي» وثلوجها التي قطعت الطرقات الجبلية. كان يعتقد أنّ جلسة المواجهة مع جعجع ستحلّ الإشكالات العالقة، ومن بينها الملاحظات القواتية على ورقة النويا لترتدي حلتها النهائية قبل عرضها أمام الرأي العام، إيذاناً بانطلاق المرحلة الثانية من المفاوضات.
هكذا قضى الاتفاق المبدئي بين المتحاورَين الذي رسم خريطة الطريق بينهما، كي لا يكون شيطان التفاصيل أقوى من رغبة التلاقي. وبما أنّ كنعان ورياشي تبادلا أكثر من سبع مسودات تعرضت جميعها للتنقيح على أمل أن تكون بنود الورقة خط التقاء بين الفريقين، كان من المتوقع أن تكون الجولة الأخيرة من الملاحظات، سريعة لا تشوبها عراقيل جوهرية.
عملياً، ناقش ابراهيم كنعان مضيفه، وهذه المرة بحضور ستريدا جعجع، في كلّ شيء… إلا في الملاحظات المسجّلة، من دون أن يتمكن من وضع يده على النسخة المنقحة ليحملها لجنراله. أقفل الرجل عائداً إلى الرابية بعد جلسة الساعتين، لينتظر!
كان هذا الوقت المستقطع كافياً لإثارة عاصفة من التساؤلات المحرجة عن أسباب التصحّر الحاصل في عروق الحوار. هناك من ربطها بحادثة الفيديو الذي طال ستريدا جعجع وعدم اقتناعها بالإجراءات المتخذة من الجانب البرتقالي.
وهناك من راح في تفكيره أبعد من ذلك، ليلقي اللوم على متغيرات سياسية فرضت نفسها على مكاتب معراب وقد تدفع بـ «حكيمها» إلى التخفيف من حماسته الحوارية وتقليص منسوب هذا الحراك، حتى حدوده الدنيا، بحجج مختلفة. تارة بسبب حوادث جانبية لا يفترض بها أن تكون على قدر من الأهمية لتعطيل هذا المسار الطويل، وطوراً بسبب الاستحقاق الرئاسي وحساباته الإقليمية، مع أنّ الفريقين يعلمان أنّ العقدة ليست في هذا «المنشار».
وفق مواكبين جديّين للحوار، ثمة صعوبات وعراقيل تعرّضت للمسار الحواري منذ نشأته، ولكن في المقابل، هناك إرادة جدية وصلبة لتخطي هذه الحواجز ومعالجة الصعوبات، لأنّ الآمال كثيرة وكبيرة على الخروج بخلاصات تفاهمية، ليست فقط من جانب المسيحيين وإنما من جانب الفاتيكان أيضاً.
وفي هذا السياق، تفيد المعلومات أنّ عشاء جمع منذ أيام قليلة نواباً عونيين وقواتيين في منزل نعمة افرام بمشاركة السفير البابوي في لبنان غبريال كاتشا وعدد من الشخصيات، حيث كان الحوار المسيحي – المسيحي الطبق الرئيس على المائدة.
كان لافتاً الدعم المباشر الذي أدلى به السفير البابوي للحوار بين الرابية ومعراب والتشجيع على هذا التقارب لما فيه خير للمسيحيين، والرهان عليه كعامل جوهري لتحريك الجمود الحاصل في الملف الرئاسي، فيما بدا المشاركون في حال إجماع حول أهمية التفاهم المسيحي ـ المسيحي كحجر يرمى في بركة النظام اللبناني لتحريك مياهه وإخراجه من مأزقه، على اعتبار أن القوى المسيحية هي الأقل انغماساً بين رفيقاتها في صراع المنطقة.
لا ينكر أحد، أن لهذا الحوار مؤيدين يحاولون مد يد المساعدة، كما أن المتضررين منه يتمنون له موتاً رحيماً. ولكن الأكيد أن مساره ليس تفصيلاً هامشياً في المعادلة اللبنانية، بدليل رصده عن كثب من جانب دوائر قرار دولية، أوروبية وأميركية، تسعى بكل الوسائل إلى التنقيب في ثناياه لقياس جديته وعناوينه.
حتى سعد الحريري الذي سبق له أن شجع الجنرال على الشروع في حوار مع مسيحيي «14 آذار» ليذلل العقبات التي تحول دون وصوله إلى قصر بعبدا، يتابع بالتفصيل الممل، بواسطة غطاس خوري دقائق هذا المسار.
…ومع ذلك، لا تزال العقدة التي تعرقل المفاوضات خفية.
الأكيد أنّ العونيين، والجنرال تحديداً، لم يطالبوا الجالسين قبالتهم بموقف صريح ومحدد من الرئاسة، أقله حتى الآن. كان الاتفاق المبدئي واضحاً بأنّ البحث في التفصيل متروك للمرحلة الثانية من المفاوضات، حيث يفترض بالمرحلة الأولى أن تختم بشمع ورقة النوايا.
وفي هذه الأخيرة تفاهم كنعان ورياشي على بند الرئاسة من خلال الإشارة إلى ضرورة انتخاب رئيس قوي، ولم يواجها أي إشكالية من شأنها أن تدفع جعجع إلى القول إنّ هذه المسألة وضعت جانباً، موحياً بأنّ الخلاف وقع ولكن لا بدّ من تحييده عن «النيران» الخلافية.
ما يعني، وفق هذه الخلاصة، أنّ الفريقين تخطيا عقبة الرئاسة في المرحلة الأولى المتصلة بالورقة، وتُركت بقية النقاش إلى المرحلة الثانية، ليس من باب التمايز في المقاربات، وإنما عملاً بخريطة الطريق المرسومة مسبقاً. ولهذا هناك من رسم علامات استفهام، لا بل رسم شكوكاً حول موقف جعجع لأنه أوحى وكأنه يمهّد للانسحاب من الحوار لاعتبارات تخصّه، من خلال وضع عصا الرئاسة في دواليب الحوار.
في المقابل، فإن الجنرال امتنع عن التعليق منتظراً وضع الوثيقة أمامه ليُخْرِج ما في جعبته. أما قبل ذلك، فهو يعرف أنّ الكرة ليست في ملعبه وأنّ من سيحاول إحراق المراحل، سيحرق أصابعه أولاً…
هكذا، يفترض أن يكون هذا الأسبوع حاسماً. فإما تعود الورقة إلى الرابية ويتمّ إعدادها لتوضع أمام الرأي العام، وإما يعود كل محاور إلى منزله.