IMLebanon

هكذا تجاوز الحريري مخاوفه الأمنية… ظرفياً

لطالما رفعت أوساط «المستقبل» شعار: الحريري باقٍ في الخارج لأسبابٍ أمنية. فالرجل يتلقّى النصائح بالاحتماء بعيداً، خصوصاً بعدما تمّ استهداف قريبين منه، خلال غيابه. واليوم، يسأل كثيرون: هل انتفت مخاوفُ الحريري؟ وأيّ جهاتٍ تعطيه ضمانتها الأمنية؟ وهل هو يشعر بكفاية هذه الضمانات لكي يعودَ ويمارس نشاطه السياسي المعتاد؟

القريبون من الحريري يرفضون الإجابة عمّا إذا كانت إقامته في لبنان ستطول أو تنتهي قريباً. فالمسألة حسّاسة أمنياً، ولا أحد يعرفها حتى أقرب المقربين. وربما لا يستطيع الحريري نفسه أن يجزم بمدّة بقائه في لبنان حالياً، وهو يفضِّل أن يترك القرار مرهوناً باللحظة.

ولطالما أشارت أوساطُ «المستقبل» إلى أنّ مخاوف الحريري الأمنية ذات صلة بالاغتيالات التي استهدفت شخصيات من «المستقبل» أو 14 آذار أو مسؤولين أمنيين، وبملف الوزير السابق ميشال سماحة. فـ»المستقبل» يعلن تصريحاً وتلميحاً أنّ مصدر المخاوف على هذا الفريق هو محور الأسد – طهران.

ولذلك، كان كثيرون يعتقدون أنّ الحريري لن يعود إلى لبنان نهائياً قبل التوصل إلى تسويةٍ متكاملة، ليس في لبنان فحسب، بل أيضاً وخصوصاً في سوريا. وهذا يطرح السؤال الآتي:

إذاً، كيف عاد الحريري في ذروة التجاذبات الخطرة؟ ولماذا عمد، فور وصوله، إلى إطلاق هجومه الأعنف على «حزب الله» وإيران إذا كان يعتقد أنّ هذا المحور هو مصدر مخاوفه الأمنية؟

المطّلعون يروون في هذا المجال أنّ الحريري تلقّى إشاراتٍ من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط مفادها أنّ التسوية التي يعمل لها لم تمُت، وأنّ إيران و»حزب الله» يريدان فقط تحسين الشروط. وهذا هو السبب الذي دفع الحريري إلى القول، للمرة الأولى، إنّ «حزب الله» يستمهل الانتخابات الرئاسية ولكنه لا يعطِّلها. وهذا موقف له دلالاته السياسية.

والتسوية الرئاسية الموعودة تقوم على ركيزة ثلاثية: فرنجية في بعبدا، الحريري في السراي وبري في ساحة النجمة. لكنّ «الحزب» يريد من خلالها إبرامَ صفقة متكاملة يحصل فيها على مكاسب أخرى، في الوقت المناسب. ويبدو أنّ هذا الوقت لم يحن بعد. وتبلَّغ الحريري من الوسطاء أنّ «حزب الله» مستعدٌّ للتفاوض حول الصفقة.

وجاء الحريري بناءً على ترتيبات شارك فيها مسؤولون سياسيون وأمنيون سعوديون، حاملاً توجيهات الرياض بالمضي في التسوية، كإشارة إلى استعدادها للانفتاح على إيران في المنطقة، بل إلى التخلّي لها عن جزء كبير من النفوذ في لبنان وسوريا والعراق.

فالسعودية مهتمّة خصوصاً بضمان استقرارها الداخلي وأمن المنظومة الخليجية. وقد ساهم الروس في إقناعها بأنّ تحقيق هذا الهدف هو الأولوية. وأما الأتراك فلا يفكرون اليوم في مواجهة الأسد، بل في حماية تركيا من الانفجار داخلياً، خصوصاً بسبب العامل الكردي.

عند وصوله إلى بيروت، نسّق الحريري خطواته مع جنبلاط الذي كان أوّل زائريه، بعد زيارة عين التينة. وأما هجومه في «البيال» على «حزب الله» وإيران فلا يرى فيه المطّلعون سوى تغطية للتوجُّهات التسووية التي يجري ترتيبها، ومادة لشدِّ العصب السنّي وعصب جماهير «المستقبل» و14 آذار بعد الأزمات التي مرَّت بها.

وقد فَهِمَ «حزب الله» هذه الرسائل، ولذلك، لم يردّ عليها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. وينتظر «الحزب» إشاراتٍ من «الوسيطين» بري وجنبلاط، للاستماع إلى آخر عرض تنازلي سيقدِّمه الحريري، بعد التنازل عن موقع الرئاسة لفريق 8 آذار، ولا سيما حول قانون الانتخاب وشكل الحكومة والمواقع الأساسية.

وينطلق الحريري من فرضية أنّ فرنجية، بالنسبة إلى «الحزب» والأسد، هو المرشح الأفضل، وليس عون. ولذلك، يمكن أن يكون فرنجية عنوانَ اتفاقٍ سنّي- شيعي- درزي جديد، عند نضوج الظروف، على غرار اتفاقات مماثلة عُقِدت منذ العام 2005.

ويعتقد البعض أنّ الأزمة التي نشأت بين الحريري ووزير العدل أشرف ريفي، هي التعبير الأبرز عن توجّهات المرحلة المقبلة. فمسألة إحالة ملف سماحة إلى المجلس العدلي ليست وحدها المثيرة للهواجس.

وفي السياق، تقصَّد الحريري في «البيال» توجيه انتقادات إلى «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر»، ومسايرة فرنجية والكتائب. فإذا أمكن اللعب على التناقضات المسيحية وإرضاء بكركي، سيكون مُتاحاً إضعاف الجميع وتمرير الصفقة مع الأقوياء، أيْ الشيعة لا المسيحيين.

ويذهب البعض إلى القول: إنّ عودة الحريري إلى بيروت تمَّت في إطار تفاهم ضمني مع «حزب الله»، بوساطة بري وجنبلاط. وهذا التفاهم هو غطاؤه الأمني. ومن الملامح الأولى للتفاهم، حسم الحريري تسمية فرنجية رسمياً عند زيارته عين التينة، إذ قال بوضوح: «فرنجية هو مرشحنا».

لكنّ الحريري لم يكن يريد توتير العلاقة مع جعجع، فجاءت «زلّة اللسان» غير المقصودة بحقه لتكشف نيّات حاول الحريري إخفاءَها.

وزيارة معراب نجحت آنياً في وقف المعارك التي اندلعت بين الطرفين تحت سقف 14 آذار، والتي اتخذت طابعاً طائفياً أحياناً. وأما المأزق السياسي فلم يشفع به الخبز والملح.

والصيغة الهجومية التي اعتمدها الحريري في خطابه السياسي، منذ عودته، فاجأت المراقبين. فالحريري في «البيال» وعين التينة وسواهما ليس هو نفسه الحريري في المراحل السابقة. وهو يبدو اليوم أكثر حدَّة، حتى مع الحلفاء.

ويعتقد البعض أنّ المراس السياسي الذي اكتسبه الحريري بعد اغتيال والده واضطراره إلى النزول إلى المعترك، قد خسر جزءاً منه بفعل الزمن وابتعاده عن الساحة اللبنانية. ولذلك، هو يحتاج إلى بعض الوقت من المراس السياسي في لبنان لاستعادته.

إذاً، فوق الطاولة، الحريري يهاجم «حزب الله». وأما تحتها فوساطات لتمرير الصفقة. وفي أيّ حال، إنّ مهاجمة الحريري لـ»الحزب» هي حاجةٌ في سيناريو التسوية، لإنها تتكفّل بأخذ المزاج السنّي إلى التسوية، وهو في أعلى درجات استنفاره. وغالباً، ما تبدأ التسويات بمعارك طاحنة، وتُؤخذ الجماهير إلى التسويات… وهي مرفوعة الرأس!

الجميع يتذكَّر اتفاق 8 و14 آذار في ربيع 2005، مباشرة بعد انسحاب سوريا، ويتذكَّر الدوحة بعد مواجهات 7 أيار 2008. وقبل ذلك، فليتذكَّر المسيحيون: كيف وُلِد «إتفاق الطائف»؟

الأرجح أنّ الحريري جاء «تجريبياً» إلى لبنان، وبضمان «فريق التسوية»، وبما يمثِّله بري وفرنجية من وزن في محور الأسد – طهران. ومن المؤكد أنّ أكثر الحريصين عليه اليوم هو «حزب الله» الذي عليه أن يمنع أيّ خرق أمني مدسوس يتمّ تدبيره، ثمّ يتمّ تحميله المسؤولية عنه.

ولكن، قد يعود الحريري إلى «المنفى» الاختياري، في أيّ لحظة، وتحديداً إذا انتفت إشاراتُ التسوية وعاد التحدّي الحقيقي إلى الساحة. ففي هذه الحال ستعود الأقنية إياها لترسل إلى الحريري إشارات الخوف الأمني. وأما إذا طالت إقامة الحريري في لبنان، فمعنى ذلك أنّ «الطبخة» ما زالت على النار، وقد تنضج أو تكون «طبخة بحص».