أعاد تلويح الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله باستهداف حاويات غاز الأمونيا، معادلة الردع المتبادل بين حزب الله وجيش العدو الى الواجهة من جديد. وعزّز التفوّق النوعي والكمّي الذي تتمتع به إسرائيل وجيشها في مقابل لبنان وحزب الله، التساؤل عن كيفية نجاح حزب الله في تحقيق هذا المنسوب من الردع الذي وفّر مظلة حماية للبنان وهامشاً أوسع لحركة محور المقاومة على مستوى المنطقة؟
صحيح أن امتلاك القدرات المناسبة يشكل شرطاً لازماً لتحقيق الردع في مواجهة العدو، لكن أصل امتلاك هذه القدرات لا يكفي وحده لتحقيق المؤمل منها، بل لا بد من حضورها بالاجمال في وعي قادة العدو وحساباتهم. كذلك ينبغي أن يدرك العدو أن الطرف المقابل يملك إرادة تفعيل هذه القدرات.
وأهمية العامل الأخير أن هناك فرقاً بين امتلاك القدرات، وإرادة تفعيلها التي قد يدخل في بلورتها العديد من العوامل، منها ما يتصل بالنظرة الى طبيعة ردّ فعل العدو وحجمه، وأولويات أخرى تستوجب معالجتها، كما هي الحال في معركة الدفاع التي يخوضها حزب الله ضد الجماعات التكفيرية والارهابية.
وبالتالي، فإن توجيه الرسائل ضد العدو مسألة تتطلبها حركة المتغيرات التي قد تنعكس في قراءاته وحساباته، وتدفعه الى تقديرات خاطئة تتصل بنظرته الى إرادة تفعيل القدرة لدى الطرف المقاوم الذي يملك القدرات. في هذا الاطار، من الصعب الفصل بين المواقف التي أطلقها السيد نصرالله، والسياقات الاقليمية التي دفعت أطرافاً عربية وإقليمية إلى التلويح بالتدخل العسكري البري في سوريا، لاحتواء تقدم الجيش السوري وحلفائه، وهي نفسها التي قد تدفع العدو لدرس خياراته، لكن لمواجهة مفاعيل تعزيز محور المقاومة الذي سوف يؤدي بالضرورة الى تعزيز موقع حزب الله في المعادلة الاقليمية إزاء إسرائيل.
من شروط الفعالية الردعية للقدرات التي يمتلكها حزب الله، أيضاً، أن يسلم الاسرائيلي بحقيقة عدم قدرته على سلب حزب الله هذه القدرات وتدميرها، أو على الأقل إدراكه أنه سيدفع أثماناً أكبر من قدرته على التحمّل وبالقياس الى الجدوى المؤملة، خاصة أن جيش العدو يتمتع بتفوّق نوعي وكمّي كبير جداً في مقابل حزب الله ولبنان.
رغم أن رئيس أركان جيش العدو غادي أيزنكوت لم يسهب كثيراً في كلمته، في مؤتمر معهد أبحاث الامن القومي، لكنه تناول الاستراتيجية التي تحدّى من خلالها حزب الله التفوّق الاستخباري والجوي والبري للجيش الإسرائيلي.
نقطة الارتكاز في خطة حزب الله العملانية، كما قدمها أيزنكوت، تقوم على توسيع نطاق انتشار قدراته الاستراتيجية والتكتيكية في أوسع نطاق ممكن. وهو أمر له بعدان، الأول استخباري بحيث يصعب على الاستخبارات الاحاطة بهذا الكمّ من القدرات، والثاني أنه وفّر لحزب الله الارضية التي تسمح له بسلب العدو القدرة على تدمير قدراته العسكرية. وهو ما أشار اليه أيزنكوت بأن الحزب «بنى في كل قرية منظومة دفاعية ومنظومة صواريخ قوسية وصواريخ مضادة للدروع وقيادة. والمساعي الآن لتطوير دقة هذه الصواريخ التي تطورت من 10 آلاف صاروخ إلى نحو 100 ألف صاروخ».
هكذا باتت إسرائيل تدرك بالكليات حجم قدرات حزب الله، لكن على قاعدة «إدراك الغابة من دون أن تعثر على الاشجار». ونتيجة ذلك، لم تكن هذه المعرفة كافية لتحويلها إلى حسم وانتصار يتطلبان العثور على كل منصة صاروخية وتدميرها. ويبدو من كلام أيزنكوت أن حزب الله تحدى تفوّق سلاح الجو الإسرائيلي، عبر تكتيك توسيع نطاق الانتشار والإخفاء والتضليل والتمويه… أي بما يسلب العدو العثور على كل أو معظم الاشجار، الأمر الذي يحد من مفاعيل التفوّق النوعي الإسرائيلي.
أيضاً، يساهم تكتيك حزب الله في الحدّ من مفاعيل التفوّق البري الاسرائيلي، الذي قد يلجأ اليه ــ نظرياً ــ في حال فشل سلاح الجو، بهدف الوصول الى مناطق إطلاق الصواريخ. لكن الحزب بنى ــ بحسب أيزنكوت أيضاً ــ منظومة دفاعية وصواريخ مضادة للدروع، مقرّاً بأن «هناك تعقيداً كبيراً جداً في البعد البري»، وموضحاً أن لدى الجيش الإسرائيلي تفوّقاً عالياً جداً في المجال البري مقابل الجيوش المعادية، لكن «هذه القدرة تتقلص في مواجهة تنظيمات تتموضع في المناطق المبنية». يضاف الى ذلك أن امتلاك حزب الله قدرات واسعة تحت الارض أوجد، بحسب أيزنكوت، «تعقيداً كبيراً لنا ولجيوش أخرى تواجه الارهاب».
وبالاستناد الى ما ورد، أقرّ رئيس أركان جيش العدو بأن حزب الله يشكل تحدياً لمفاهيم الجيش الاساسية التي خدمت دولة إسرائيل بشكل جيد، «الإنذار، الردع والحسم والانتصار». ومنشأ هذا التحدي يعود الى أن حزب الله اعتمد استراتيجية نجحت في «الحدّ من مفاعيل عناصر تفوّق الجيش الاسرائيلي، وبما يمنح مقاتلي الحزب القدرة على المناورة والبقاء».
في ضوء ذلك، لم يكن حديث أيزنكوت عن أن «القرى الشيعية تشكل مركز ثقل حزب الله» مجرد تعبير يهدف الى القول إنها تشكل العمق الديمغرافي للحزب، بل إن مفهوم «مركز الثقل» يعبّر عن تشخيص دقيق لنقاط قوة المنظومة المعادية وضعفها، وبالتالي استهدافها عبر ضربات مباشرة. ففي النظرية الكلاسيكية، يتمثل مركز الثقل بكتلة جيش العدو أو نقاط ضعف مادية أو أدائية في منظومته العملانية، يفترض أن تؤدي مهاجمتها الى إفقاده حريته في العمل الاستراتيجي وقدرته على مواصلة القتال، أو على الأقل «هزّ نماذجه القتالية».
وفي ما يتعلق بحزب الله، يرى العدو أن نموذجه القتالي يستند الى إخفاء مراكز الثقل العملاني، وتوزيعها عبر التحول الى خلايا مستقلة تضيع معها معالم عموده الفقري العسكري، وهو ما يفقد العدو القدرة على توجيه ضربات قاصمة وحاسمة.
هكذا يكون حزب الله قد سلب العدو القدرة على الحسم، والأهم من ذلك، أن هذا المفهوم حاضر لدى قيادة جيش العدو، الأمر الذي ساهم في تقليص هامش الخطأ في التقدير والمغامرة بعمليات عسكرية واسعة منذ ما بعد حرب عام 2006.
في ضوء هذه الخلاصات، لم يجد العدو أمامه سوى تبنّي وإعلان ما سمّاه «عقيدة الضاحية». وهو ما طبقته إسرائيل بصيغته القصوى في اعتداءاتها على قطاع غزة، وتحديداً خلال العدوان الاخير الذي حمل اسم «الجرف الصامد». وهدفت قيادة العدو من التلويح بعقيدة الضاحية الى ردع حزب الله، ليس فقط عن المبادرة الابتدائية، بل أيضاً عن الرد إزاء أي اعتداءات إسرائيلية محددة. لكن مشكلة الاسرائيلي أن المقاومة راكمت قدرات صاروخية على المستويين النوعي والكمي، تطورت بموجبها قدراتها التدميرية ودقتها في الاصابة وقدرتها على الوصول الى أي نقطة في إسرائيل. وبلغ تطور معادلة الردع المتبادل مرحلة معادلة «الامونيا ــ عقيدة الضاحية».
مع ذلك، ينبغي التأكيد على أن تلويح الامين العام لحزب الله باستهداف منشآت الامونيا، وأي منشآت أخرى في العمق الاستراتيجي، لم يكن سوى بهدف تعزيز قدرة الردع ضد أي مغامرة اسرائيلية تستند الى وهم إمكانية اتباع سياسة التدمير الشامل، مقابل أضرار يمكن تحملها، أي بهدف تعزيز الردع الاستراتيجي الذي يوفر مظلة حماية للبنان. وهكذا يكون حزب الله قد أنتج وعزّز قدرة ردع استراتيجي، تقوم على سلب العدو القدرة على الحسم الذي يملكه في مقابل الجيوش النظامية، وعلى صلابة وحزم القرار القيادي والالتفاف الجماهيري حولها، وعلى القدرة على إلحاق أكبر خسائر مؤلمة ممكنة بالعدو.
وتقوم فذلكة هذه المعادلة على حقيقة أنه مهما تطورت القدرات العسكرية والصاروخية، إن لم تكن ضمن استراتيجية تسلب العدو القدرة على الحسم، يمكن للعدو أن يراهن على توجيه ضربات عسكرية مفصلية تساهم في تحييدها أو الحد من مفاعيلها، كما حصل في تاريخ الصراع العربي ــ الاسرائيلي مع الجيوش النظامية.
أيضاً، إن لم يكن ذلك مقروناً بصلابة قيادة المقاومة وقاعدتها، فإن العدو يمكن أن يراهن على أن يؤدي تفاقم الضغط العسكري الى تطويع قرارها وخياراتها، حتى لو لم يؤدّ ذلك الى سلبها قدراتها وتدميرها.
والذروة في هذا المسار هي امتلاك المقاومة القدرة على إلحاق أكبر خسائر ممكنة في العمق الاسرائيلي، وامتلاك إرادة تفعيل هذه القدرة. في هذه الحالة، سيجد العدو نفسه أمام جدوى محدودة، ورهان فاشل على تطويع خيارات المقاومة، وأثمان مؤلمة يمكن أن تتصاعد، وصولاً الى أثمان لا تُطاق.