تترقّب الأوساط العسكرية والديبلوماسية مراحلَ العملية الروسية على الأراضي السورية بدقة متناهية بالإستناد الى قواعد الإشتباك التي اعتمدتها في الأيام الأولى منها، لتخلص الى الحديث عن ثلاث مراحل عسكرية تقليدية لها، وأخرى سياسية وديبلوماسية تواكبها لتفضي الى أمر واقع جديد يرسم خريطة طريق الى مستقبل المنطقة كما يريدها الروس من دون أن يتفرّدوا بما يحدث.
من الواضح أنّ القيادة الروسية اعتمدت في عمليتها العسكرية في سوريا تقنيات الحرب التقليدية المعتمَدة في كلّ جيوش العالم. ففي قواعد الإشتباك التي حدَّدتها لوحداتها وتلك التي طلبتها من قوات الحلف ودول الجوار السوري بما فيها إسرائيل ما يوحي بذلك.
فمنذ أن أعلنت القيادة الروسية عن بدء عملياتها ليلَ 30 ايلول – 1 تشرين الأول في شمال سوريا، حدّدت القيادة الروسية الأهدافَ المباشرة لها. فاعتبرت أنها تستهدف المجموعات الإرهابية بما فيها القوى التي انضمّت إليها من دول الإتحاد السوفياتي السابق في الدرجة الأولى من دون تمييز بين هويّاتها وفق تصنيف الحلف الدولي بين إرهابية وصديقة – معتدلة لتسهيل استعادة الجيش السوري سيطرته على المناطق التي خسرها وحماية الساحل السوري حيث تقع القواعد الروسية البحرية قبل أن تقيم قواعدها الجوّية.
وما هي إلّا أيام قليلة حتى كشفت روسيا عن مسرح عملياتها، فثبُت أنها لن تكتفي بالشمال السوري، فامتدت مساحتها جنوباً الى العاصمة السورية ومحيطها إثر الكشف عن التفاهم مع القيادة الإسرائيلية وتنظيم الأجواء بين سلاحيهما لمنع أيّ احتكاك بعد تحديد دقيق لمساراتها.
تزامناً، وجّهت القيادة الروسية رسائلها في كلّ الإتجاهات، فخاطبت في اليوم الثاني للعملية القوات الأميركية طالبة منها عدم التحليق في المجال الجوّي الذي رسمت خطوطه على طول المنطقة الساحلية وفي عمق يمتدّ الى سماء حلب وحماة وحمص.
وما هي إلّا أيام قليلة حتى خرقت المجال الجوي التركي مرتين متتاليتين في رسالة واضحة أقفلت بموجبها الأجواء السورية أمام الطائرات التركية، ولم تتورّع عن توجيه النيران تجاه إحداها تحذيراً قبل أن تتعدّد الحوادث المحتمَلة التي عبرت في أخطر مراحلها.
كان الإعتقادُ يسود أنّ المناورة الروسية محدودة، وأنّ ما رافقها من دعاية إعلامية تجاوزت التقاليد الروسية في حروب مماثلة وما هي سوى حرب نفسية، وعملية جسّ نبض محدودة في الزمان والمكان ومجرّد استعراض عضلات الى أن إختتمت اسبوعها الأوّل بإشراك الصواريخ العابرة للقارات من أسطولها في بحر قزوين في اتجاه قواعد المسلحين ومخازن اسلحتهم ومواقع القيادة وفق بنك معلومات أوسع وأشمل من بنك الحلف الدولي.
لا يتجاهل الخبراء العسكريون أدقّ التفاصيل التي رافقت العمليات العسكرية الروسية على وقع انتشار محدود للقوى البرّية على الأراضي السورية ولا سيما حركة المستشارين والخبراء الذين تغلغلوا في المواقع السورية الأمامية الى أن أيقنوا أنّ ما يحصل يدخل في سياق عملية عسكرية تقليدية واسعة وكبيرة لا تقف عند حدود التهويل والمناورة.
فقد ثبُت أنّ القيادة الروسية اعلنت الإستنفار الشامل في قواعدها البحرية والجوّية وأنشأت غرفة عمليات في القيادة المركزية وفرق عمل للتعاون والتنسيق مع اسرائيل وقوى الحلف الدولي.
فانتشر قادتها بدءاً من رئيس الأركان الذي زار تل أبيب لترسيخ التفاهمات معها على تنظيم الحركة الجوية وترسيم الخطوط الحمر للطائرات الإسرائيلية تزامناً مع الدعوات التي أُطلقت في اتجاه واشنطن وأنقرة وباريس ولندن للتواصل وتنسيق العمليات الجوّية بعدما تكرّرت التجارب التي كان يمكن ان تؤدّي الى صدامات جوّية مع المقاتلات الأميركية والتركية عدا عن المخاطر التي تهدَّدت حركة الطيران المدني جراء استخدام الصواريخ العابرة للقارات وهي مواجهات لا يريدها أحد.
وعلى خلفية هذه الوقائع توقف الخبراء العسكريون أمام حجم العمليات العسكرية وما جنّدت لها من قدرات، فأيقنوا أنّ ما يحصل «عملية كبيرة جداً» رسمت لها أطرها العسكرية واللوجستية والتقنية وجنّدت لها الديبلوماسية الروسية كامل طاقاتها بعد طلب الرئيس السوري التدخّل في أرضه وتفويض الدوما للرئيس الروسي للقيام بما نوى عليه خارج الأراضي السورية بآلية هي الأسرع في التجارب الدولية السابقة المماثلة.
تزامناً، بدأت الديبلوماسية حملتها لشرح العملية وخلفياتها وأهدافها، فعمّمت على العواصم المعنية ولا سيما في باريس وانقرة وواشنطن وبيروت أنّ ما يحدث في سوريا ليس عملية عابرة بل هي في إطار تصوّر شامل للمنطقة بما فيها مستقبل سوريا.
وعليه ما هي المراحل المقدَّرة للعملية العسكرية؟ وما هي عناوين التصوّر الروسي المستقبلي؟
على المستوى العسكري، يرى الخبراء المعنيون أنّ ما بدأه الروس سيجرى على مراحل ثلاث:
– أوّلها من خلال ما نفذ الى اليوم وهي تقع تحت عنوان «التمهيد بالنار» ويقدّر لها أن تستمرّ ثلاثة أشهر ما لم تُسجّل العملية أهدافها بسرعة، فتختصر الى شهرين.
– ثانيها يطلق عليها بالمنطق العسكري «عملية التدمير المركّز» لمراكز القوة و»التعهّد بملاحقة الأهداف» ويقدر لها أن تستمر فترة موازية للأولى.
– ثالثها ستكون بـ»الدعم الناري المباشر» للقوى البرّية للجيش السوري وحده دون غيره من المنظمات المتعاونة معه بغية تحييد القوى الخارجية عن سير المعركة تجنّباً للرفض الدولي لدور إيران وأدواتها.
وعلى المستوى الديبلوماسي والسياسي تقول القراءة الروسية إنّ لكلّ مرحلة من المراحل العسكرية الآنفة الذكر مواكبة ديبلوماسية وسياسية مختلفة عن الأخرى. وهي المرحلة الأدقّ والأخطر لأنها مفتوحة على شتى الإحتمالات وقد تكون هناك نكسات على الطريق تحتسبها بدقة ولا تتجاهلها طالما أنّ هناك قراراً خليجياً بدعم المعارضة لم يعالجه الروس بعد، وأخرى من الإنجازات لا يمكن التقدير بشأنها فلكلّ آن أوانه.
على هذه الخلفيات يقول الخبراء العسكريون إنّ روسيا تتصرّف وكأنها نالت تفويضاً مفتوحاً من دول الحلف الدولي أو على الأقل اعترافاً غير مسبوق بشرعية عمليتها وهي تتعاطى معها على أنها امر واقع جديد لا يمكن تجاهله.
وما يزيد من الثقة بالعملية أنها وضعت حدّاً في الأمس القريب للطيران الإسرائيلي الذي دخل مجالها الجوّي ليس فوق سوريا فحسب إنما فوق شمال لبنان أيضاً وهو امر يشير الى متانة التفاهم الإسرائيلي – الروسي الذي تقدّم على بقية التفاهمات مع دول الحلف أو غيرها.
كما وضعت حداً مماثلاً للطيران التركي الذي بدأ يحتسب أيّ طلعة له فوق الأراضي السورية على أنها من الإنجازات التي قد تتكرّر وقد لا تتكرّر. فالأمر مرهون بنوعية العملية وحجمها والجهة التي تستهدفها وليس صعباً على الروس القبول بدور تركي محدود يتّصل باعترافها لأنقرة بحجم من أمنها القومي المهدَّد من الأكراد أو غيرهم من المنظمات المناوئة لها.
وبناءً على ما تقدّم، لا يرى الخبراءُ العسكريون والديبلوماسيون أنّ العملية ستجرى بسلاسة. لكنّ ما ظهر الى اليوم يوحي بأنها ليست مستحيلة.
فالتلازم بين القوّة الجوّية الروسية والقوّة البرّية للجيش السوري قد تحسم وجوهاً من المعركة على صعوبتها ولو بكلفة عالية جداً. ويذهب البعض أبعد من ذلك ليقول إنها «عملية ستنتهي في خدمة الأميركيين إذا ما نجحت روسيا حيث ما فشل الآخرون»، وقد ظهرت بوادر تشير اليها بقول أحدهم إنّ الروس قاموا بما كان يجب أن يقوم به الحلف ولم يفعل وسط تناغم دولي بدأ يتظهّر.
فالأزمة السورية لن تتسبّب بالمنطق الروسي والأميركي والدولي بحرب عالمية جديدة لكنها قد تشكل مناسبة لإعادة تحديد الأحجام وتقاسم النفوذ بكلّ المقوّمات العسكرية والأمنية والإقتصادية، وعلى الجميع الإستعداد لفصولها.