الأرشيف الديبلوماسي الفرنسي.. الانزلاق نحو الحرب الأهلية 1968 ـ 1975 (6)
هكذا بلغ لبنان محطة «بوسطة عين الرمانة»
عدم إطلاق دينامية دولية فاعلة من أجل إلزام إسرائيل بوقف اعتداءاتها ومن أجل حل القضية الفلسطينية، تسبّب بعواقب وخيمة على الوضع في لبنان اعتباراً من العام 1973.
دوامة العنف في الشرق الأوسط كانت متوقعة بعد نكسة العام 1967. أدركت باريس وقتذاك أن استمرار الاحتلال يمثل عقبة أساسية أمام السلام والاستقرار. ثابرت على هذا الموقف وذكّرت به في كل مرة كان يتحول فيها لبنان إلى ساحة مواجهة. حاولت إقناع واشنطن بضرورة الضغط على إسرائيل.
في مرحلة أولى، وضعت الإدارة الأميركية، بين 1967 و1973، خططاً عدة للسلام، تعكس رؤية مؤيدة لحل سلمي شامل. دوافع تلك الرؤية تتمثل في أن احتواء وإضعاف النفوذ السوفياتي في الشرق الأوسط كانا يتطلبان حلاً كهذا. لكن توازن القوى في الإدارة الأميركية أطاح هذه الرؤية، لمصلحة ما تسمى «سياسة الخطوات الصغيرة». هنري كيسنجر هو من أطلق هذه السياسة بعد تعيينه وزيراً للخارجية خلفاً لويليام روجيرز، في 1973. سياسته تعني، كما شرح هو لرئيس الجمهورية اللبنانية، سليمان فرنجية، خلال زيارته للبنان في كانون الأول 1973 : «الإصغاء إلى جميع (الأطراف في الشرق الأوسط)، والبحث عن نقاط التوافق الممكنة، والاستفادة من هذه النقاط من أجل الوصول إلى خطوة (يمكن الاستناد إليها) من أجل محاولة الوصول إلى (خطوة) أخرى»، بحسب ما ورد في برقية فرنسية حول الاجتماع بين فرنجية وكيسنجر. لكن هذا الأخير كان يعتبر أن من شأن السلام الشامل، أو الحرب الشاملة، المساهمة في تعزيز النفوذ السوفياتي بدلاً من إضعافه.
لذلك كان لا بد من إبقاء الشرق الأوسط في حالة من اللاحرب واللاسلم. لهذه الغاية، كان ينبغي إخراج مصر من معادلة الحرب مع إسرائيل، وكان يجب عدم تحقيق السلام مع سوريا. هكذا يمكن تفسير المقولة المنسوبة لكيسنجر ومفادها أن «لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سوريا».
هــذه الــعوامل لم تســاعد علــى انفــراج أزمة النــشاط الفلسطيني المسلح في لبنان. تراكمت الأحداث وانفجــر الوضع، في العــام 1975. الحلقة الخــامسة من سلسلة «الارشــيف الديبلومــاسي الفرنــسي.. والانزلاق نحو الحــرب الأهلية 1968 ـ 1975» (عدد «الســفير» يوم الاثنــين الماضــي)، أضــاءت على بعــض حيثــيات تقاعــس مجلــس الأمــن.
حلقة اليوم، وهي السادسة والأخيرة، تعالج النتائج الكارثية لهذا التقاعس، وتسلط الضوء على نظرة باريس ومحتويات الأرشيف الديبلوماسي في شأن التوترات التي شهدها لبنان في العامين 1973 و1974، والتي شكلت مرحلة انتقالية نحو الحرب الأهلية.
شهد العام 1973 تصعيداً خطيراً للمواجهة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. لم يقتصر القتال على الحدود الجنوبية. مخيمات الشمال تعرضت أيضاً، في مطلع شهر آذار، لعدوان اسرائيلي. في المقابل، وفي إطار «عمليات المقاومة الخارجية»، حاولت منظمة «أيلول الأسود»، التابعة لحركة «فتح»، خطف رهائن في السفارة السعودية في الخرطوم في الأول من آذار، أثناء احتفال حضره السفير الأميركي وغيره من الديبلوماسيين الغربيين. أسفر الهجوم عن مقتل سفير واشنطن في السودان وديبلوماسيين آخرين، أميركي وبلجيكي… كذلك، أقدمت إسرائيل على اغتيال قيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في باريس، في 6 نيسان… ردّ الفلسطينيون من خلال عملية كوماندوس استهدفت منزل السفير الإسرائيلي في العاصمة القبرصية، كما حاولوا خطف طائرة إسرائيلية في مطار نيقوسيا، في 9 نيسان… بلغ التوتر أوجه مع اغتيال «الموساد» ثلاثة من كبار قادة «منظمة التحرير الفلسطينية» في شارع فردان في بيروت، ليل 9 ـ 10 نيسان 1973…
عملية «الموساد» في فردان
شكلت «عملية فردان» صدمة للدولة اللبنانية، فسارعت الحكومة بالتقدم بشكوى رسمية لبنانية ضد إسرائيل في الأمم المتحدة. لكن الظروف التي حصلت فيها العملية لم تسمح بحصر النقاش فيها. فعندما باشر مجلس الأمن البحث في هذا الوضع الجديد، هددت واشنطن باستخدام حق النقض إذا اقتصر مشروع القرار على إدانة إسرائيل من دون أن يدين بشكل واضح «الأعمال الإرهابية» الفلسطينية (في إشارة إلى عمليتي الخرطوم ونيقوسيا).
رفضت فرنسا مجدداً هذه المقاربة. في ظل مفاوضات معقدة في أروقة مجلس الأمن، اعتبر السفير الفرنسي في نيويورك، لويس دو غيرانغو، في إحدى مداخلاته، في 18 نيسان 1973، أنه «ينبغي التمييز بين الإرهاب الفلسطيني الذي يمثّل عمل عناصر (فلسطينية) غير منضبطة إلى حد ما، وبين الإرهاب الإسرائيلي المضاد، المنظم والمتحَكَّم به من جانب دولة (إسرائيل) معترف بها من قبل المجتمع الدولي، عضو في الأمم المتحدة، وملتزمة باحترام معايير القانون الدولي»، حسب تعبير غيرانغو، الذي لم يكتف عند هذا الحد. فقد غمز من قناة واشنطن حين أعاد ربط كل ما يتعرض له لبنان بغياب السلام العادل والشامل في المنطقة، قائلاً: «الصراع في الشرق الأوسط وتسلسل أعمال العنف سوف يتفاقمان إذا لم يتم إنجاز أي تقدم على طريق حل (سلمي) مطابق لقرارات الأمم المتحدة، ويأخذ بالاعتبار وضع الشعب الفلسطيني».
«اتفاق ملكارت»
كان لعملية «الموساد» في فردان وقع مأساوي على الاستقرار في لبنان. بعد أقل من شهر، اندلعت مواجهات عسكرية عنيفة بين الجيش اللبناني ومنظمة التحرير… لم تلعب باريس أو واشنطن دوراً فاعلاً في إدارة هذه الأزمة، وفضلتا التزام الصمت.
خلال محادثات غير رسمية بين سفير فرنسا في واشنطن ومسؤول في وزارة الخارجية الأميركية، قال الأخير إن «المواجهات (…) لم تعالج أي شيء. تتجه (الأمور) نحو حل على الطريقة اللبنانية، أي إقرار تسوية ينبثق عنها تفاهم هش بين السلطات اللبنانية والمنظمات الفلسطينية». أضاف المسؤول الأميركي أن «الرئيس فرنجية حدد أهدافاً غير قادر على تحقيقها من دون المجازفة (بوقوع) اضطرابات خطيرة ومواجهات بين الطوائف (اللبنانية). لا يمكن (للرئيس فرنجية) أن يأمل في تحقيق غاياته وأن يحافظ (في الآن عينه) على دعم السنة»، بحسب ما ورد في برقية فرنسية نقلاً عن المسؤول الأميركي، الذي أضاف أن «أي (مسؤول) من الطائفة (السنية) يقبل بتبوء منصب رئاسة الوزراء في حكومة عازمة على ضرب (الفصائل الفلسطينية)، سيواجه مصيراً مشابهاً لـ «وصفي التل» (رئيس الوزراء الأردني الذي اغتالته منظمة «أيلول الأسود» في العام 1971، انتقاماً لأحداث الأردن في أيلول 1970. لذلك رأى الأميركيون أن المسألة الحاسمة «كانت تتمثل في معرفة ما إذا كان رئيس الدولة سيوافق في النهاية على التراجع»، بعدما كان باشر بتصعيد عسكري حاسم ضد الفصائل الفلسطينية.
مرة أخرى، لعبت مصر دور الوساطة، وتوصل الطرفان اللبناني والفلسطيني إلى تسوية جديدة، أو ما يعرف بـ «اتفاق ملكارت»، الذي تم التوقيع عليه في 17 أيار 1973. ميزة هذا الاتفاق الجديد تكمن في إقراره ضوابط جديدة تحدّ أكثر فأكثر من النشاط الفدائي. كان ينصّ على تحديد دقيق لأماكن تمركز الفدائيين على الحدود الجنوبية، وحصر الأماكن التي يتدربون فيها… يرى البعض، مثل الدكتور فريد الخازن، أن هذا الاتفاق كان أفضل من «اتفاق القاهرة» في ما يتعلق بمصلحة الدولة اللبنانية واحترام سيادتها، لكن مشكلته تكمن في آليات التنفيذ. فالمجموعات الفلسطينية كانت منخرطة في سياسة دفاعية وهجومية مع إسرائيل. لذلك لم تلتزم باتفاق ملكارت. في النتيجة، ساهمت أحداث أيار 1973 في زيادة سرعة الانزلاق نحو حرب شاملة عام 1975.
استمرار النزيف جنوباً
كذلك، أدت عملية اغتيال ثلاثة قادة فلسطينيين في قلب بيروت في نيسان 1973 إلى مزيد من الاحتقان في الجنوب. بمناسبة مرور عام على «عملية فردان»، نفذت الفصائل الفلسطينية هجوماً ضد مستوطنة كريات شمونة في 11 نيسان 1974. في المقابل، شنت إسرائيل سلسلة من الاعتداءات مستهدفة ست قرى لبنانية في الجنوب، ما أدى إلى مقتل لبنانيين، وخطف ستة آخرين، وتدمير 31 منزلاً، الأمر الذي أعاد تسليط الضوء من جديد على قضية نزوح الجنوبيين نحو ضواحي بيروت. هذه الأحداث شكلت أيضاً موضوع نقاش في مجلس الأمن، الذي أصدر القرار 347، في 24 نيسان، وأدان انتهاك إسرائيل لسلامة أراضي وسيادة لبنان، وكل أعمال العنف…
بين سوريا وإسرائيل
التحليل الديبلوماسي الفرنسي لأحداث الجنوب في العام 1974، سلط الضوء على وجود سياسة سورية هادفة إلى فرض «إستراتيجية هجومية ضد إسرائيل» على الجار اللبناني. كذلك، لفت إلى وجود نوايا إسرائيلية توسعية مبيّتة.
السفير الفرنسي في بيروت، ميشال فونتان، لفت إلى إمكانية الربط بين عملية كريات شمونة وتصريح لناطق رسمي سوري مفاده أن الأراضي اللبنانية تشكل امتداداً طبيعياً لميدان المعركة (ضد إسرائيل). أبدى فونتان خشيته من وجود خطة سورية تهدف إلى إعادة تنشيط الجبهة اللبنانية ـ الإسرائيلية، مع ما يمكن أن تتضمنه خطة كهذه من تعزيز عدد الفدائيين في الجنوب.
في المقابل، أبدى السفير الفرنسي قلقه حيال الرد الإسرائيلي ضد لبنان، لأنه ساهم «بشكل متعمّد»، بحسب تعبيره، في إضعاف سلطة الحكومة اللبنانية تجاه سكان الجنوب، «الذين باتوا يشعرون أكثر فأكثر أن (السلطات) تخلت عنهم» أو تركتهم «دون أي دفاع في وجه المقاومة (الفلسطينية) وفي وجه إسرائيل على حد سواء»، بحسب ما ورد في برقية ديبلوماسية. أصر فونتان على اتهام إسرائيل بهذا السلوك المتعمد، لأن ضعف السلطات اللبنانية في الجنوب «يخدم مصالح الإسرائيليين على المدى المتوسط والطويل»، لا سيما أن للإسرائيليين دوافع «توسعية» في جنوب لبنان، على حد تعبيره.
من المأزق إلى الحرب
تظهر وثائق الأرشيف الفرنسي أن الرئيس فرنجية حاول في نهاية 1973، حض الدول الكبرى، خصوصاً الولايات المتحدة، على ضرورة نشر قوات دولية لحفظ السلام على الحدود الجنوبية. لكن نجاح تلك الفكرة كان مرهوناً بمشروع للسلام الشامل. إعطاء دور للأمم المتحدة ضمن خطة سلام تكفل حقوق الشعب الفلسطيني في الحصول على دولة مستقلة، شكلت ركيزة من ركائز الديبلوماسية الفرنسية منذ حزيران 1967. غير أن الأميركيين كانوا يتحدثون، منذ تلك الحقبة، عن ضرورة عدم المبالغة في الأوهام في شأن تخطي الصعوبات التي تعترض عملية السلام. كانوا يتجنبون الحديث عن فكرة الضغط على إسرائيل، علماً أنهم كانوا مدركين مدى تعنتها في شأن اللاجئين الفلسطينيين وفي شأن مصير مدينة القدس.
بدت أزمة النشاط الفلسطيني المسلح في لبنان مستعصية على الحل. فيما كانت منظمة التحرير تعطي إشارات، في العام 1974، حول استعدادها للبحث في حل ديبلوماسي للقضية الفلسطينية، دون التخلي عن «الكفاح المسلح» كشرط مسبق، كانت تصطدم برفض أميركي للاعتراف بها وبصفتها التمثيلية للشعب الفلسطيني. التفاوض مع المنظمة والاعتراف بها كانا يتطلبان، في نظر الأميركيين، اعترافها بحق إسرائيل بالوجود ووقف «النشاط المسلح». رفض الفلسطينيون الشروط الأميركية، الأمر الذي دفع كيسنجر إلى الإدراك بأن نجاح مفاوضات السلام المنفرد بين مصر وإسرائيل كان مرهوناً بإضعاف وضرب منظمة التحرير (…)، بحسب ما ورد في مذكرات كيسنجر.
كذلك، وصول «حزب العمل» بزعامة إسحاق رابين إلى السلطة في إسرائيل، في حزيران 1974، إلى زيادة العثرات أمام مساعي السلام في المنطقة. فقد أمعنت حكومته في سياسة الاستيطان، بعدما رفضت بالمطلق فكرة التفاوض مع منظمة التحرير، معلنة عزمها على تصفيتها.
كل هذه التناقضات، بالإضافة إلى الأزمة السياسية والاجتماعية اللبنانية، كانت تتفاعل في وقت ازداد فيه نفوذ منظمة التحرير في لبنان، على حساب سيادة الدولة. في النتيجة، فشلت كل المعالجات السياسية والأمنية لأزمة، أسيئت إدارتها، فبات انفجارها حتمياً.
في العام 1975، كان الصراع اللبناني ـ الفلسطيني واللبناني ـ اللبناني حاداً إلى درجة أن شرارة صغيرة كانت كفيلة بإشعال حريق كبير. هكذا أدى حادث اغتيال معروف سعد وحادثة إطلاق النار على بوسطة عين الرمانة إلى اندلاع مواجهات عسكرية وحرب أهلية طويلة، لم تجلب للبنانيين وللفلسطينيين سوى الدمار والضعف والخسائر التي لا تعوّض.
هكذا اندلعت الحرب الأهلية التي لم تتوقف فصولها وأشكالها وتغيرت أطرافها.. حتى العام 1990.