ربّما هي المرّة الأولى في تاريخ لبنان الحديث التي يعاقب فيها مسؤولون عن تقصير. وربّما تكون حادثة استشهاد العنصرين في فوج الإطفاء عادل سعادة ومحمّد المولى أثناء إطفاء حريق في مستودع في شارع مار الياس، هي من القضايا القليلة التي لم تنم في أدراج المسؤولين، بل نتج عنها تحقيق مفصل لما حدث ليل 27/28 نيسان الماضي، وبإشراف العقيد عادل مشموشي.
وعليه، فقد بدا واضحاً أن الشهيدين لم يسقطا بفعل الحريق، وإنّما بفعل الإهمال والتقصير ونسيانهما داخل المستودع الذي أخمد بنسبة 85 % لساعات طويلة من دون تجهيزات ولا متابعة!
كان يمكن أن يكون سعادة والمولى الآن في منزليهما لو أنّ واحداً من الضابط المولجين عمليّة الإطفاء قد كلّف نفسه عناء الطلب من أحد العناصر تفقّد زميليه..
وعليه، فقد أمر وزير الداخليّة والبلديّات نهاد المشنوق بإقالة ثلاثة ضباط من الفوج وهم، بحسب المعلومات المتوافرة لـ «السفير»: العقيدان ص. س. وم. ب. والمقدّم م. ح. وتحويلهم إلى المجلس التأديبي، بالإضافة إلى اتخاذ تدابير مسلكيّة بحقّ الملازم أ. إ. وبعض عناصر الفوج الذين تواجدوا أثناء إطفاء الحريق وعددهم حوالي الـ10.
كما وجّه المشنوق تأنيباً خطياً لرئيس بلدية بيروت بلال حمد وأعضاء لجنة المناقصات في البلديّة على خلفيّة نقص التجهيزات في فوج الإطفاء والتي أدت بشكل غير مباشر إلى استشهاد سعادة والمولى، خصوصاً أن الشهيدين لم يكونا مجهزين بأجهزة اتصال لاسلكيّة حديثة أو كشافات ليليّة تسمح لهما بالرؤية أثناء انقطاع التيار الكهربائي، وحتى أن مالك المستودع المحترق قد زوّد حينها عناصر الإطفائيّة الموجودين بمكان الحريق ببعض المعدّات اللازمة للإطفاء!
التقى المشنوق عائلتي سعادة والمولى وسلّمهما التحقيق باليد، سائلاً إياهم: «ماذا تريدون بعد؟ أنا جاهز».
وتشير المعلومات التي ركّز عليها التحقيق إلى أنّ المولى وسعادة دخلا إلى المستودع مرتين وعملا على إطفائه برفقة عناصر آخرين بعد اندلاعه بين الساعة الثامنة والتاسعة ليلاً. وعند الساعة 12.15 أشار أحد الضباط المولجين متابعة أعمال الإطفاء إلى أنّه سيذهب إلى المنزل لتـناول دوائه على اعتـبار أنّ المستـودع أخمد بنسبة 85 % ولا داعي لدخول أي من العناصر إلى داخله بل عليهم تبريده من الخارج.
هذه الأوامر لم ينفّذها الضابط الثاني الذي بقي في الخارج وهو يشرب مشروبات الطاقة، ومن دون أن يرسل أياً من العناصر لتفقّد زملائهم الموجودين داخل المستودع، أو على الأقلّ تبديل الطاقم الموجود في الأسفل كما هي العادة أو حتى إخراجهم من المكان.
وبعد مضي فترة من الزمن طلب أحد الضباط الأدنى رتبة الدخول إلى المستودع للبحث عن العنصرين لأنهما دخلا ولم يخرجا. غير أن عملية المتابعة هذه لم تحصل في وقت سريع، بل دخل أحد العناصر عند الساعة 1.30 فجراً وعاد ليبلغ الضابط بعدم وجود أي عنصر من فوج الإطفاء في الداخل، فردّ قائلاً: «فركوها» (أي هربوا).
أما في الداخل، فتشير الرواية إلى أنّ خرطوم الإطفاء وقع من عادل سعادة الذي حاول أن ينتشله من دون أن يستطيع ذلك لعدم تزويده بكشافات فيما المستودع غارق بالمياه، فسقط أرضاً وأصيب في رجله من دون أن يسمع زملاؤه صوت طلب الإغاثة، ليموت اختناقاً من الرائحة ويعثر على جثته (غير محترقة) عند الساعة 2.30 فجراً.
وبالرغم من العثور على جثة الشهيد الأوّل، فإن المسؤولين المولجين عمليّة الإطفاء لم يشكّوا للحظة أن شهيداً آخر ينتظر في مستودع لا يتعدّى حجمه مئات الأمتار، بل أبقوا على ظنّهم أن محمّد المولى هرب! وعند الساعة الثامنة إلا ربعا صباحاً، اتصل فوج الاطفاء بآل المولى طالباً التحدّث مع محمّد «الذي هرب من المهمّة»، فردّ والده بأن ابنه ما زال في الخدمة!
وعلى الفور، سارع عناصر الفوج للبحث عن زميلهم فوجدوه جثة هامدة بعد أن مات اختناقاً هو الآخر إثر سقوط كميّة من الورق على جسده، ومن دون أن يجد من يغيثه.
صحيح أنّ «الغالي راح ظلماً وما بقي إلّا رخيص»، وفق ما يقول والد عادل داود سعادة، إلا أن العائلتين اطمأنتا أن حقّ ولديهما لم يذهب هدراً، «بل وصلنا 90 % من حقّنا المعنوي، خصوصاً إن صحّ الوعد بأن الضباط سيحالون إلى التأديبي بعد إقالتهم»، يقول وجيه المولى والد الشهيد محمّد. ويضيف: «نحن مواطنون عاديون ولسنا مسؤولين ولا أصحاب نفوذ، ومع ذلك وعدنا الوزير المشنوق بأنّه سيحصّل حقّ ابني وفعل، تماماً كما فعل محافظ بيروت زياد شبيب».
يسرح المولى بصورة ابنه الشهيد المعلّقة في شوارع زقاق البلاط حيث يعمل، ويحمل باليد الأخرى صورة عن التحقيق الذي تسلّمه من «معاليه»، ليقول: «أعرف أنّ محمّد لن يعود، ولكنّ أعرف أيضاً أن المتسببين بمقتله لن يبقوا على كراسيهم كما لو أنهم لم يقصّروا ويتسببوا باستشهاد ابني وزميله».
حمد يتحدّى «معاليه»
ردّ رئيس المجلس البلدي لمدينة بيروت بلال حمد، في بيان عالي النبرة، على التأنيب الموجّه من الوزير نهاد المشنوق. وقال: «إزاء حملة التشهير التي تستهدفه، لا يحق لوزير الداخلية والبلديات توجيه كتاب تأنيب لرئيس المجلس البلدي لمدينة بيروت، استنادا الى المادة 103 من قانون البلديات، وبالتالي فإن قرار معاليه غير قانوني»، وقال: «للتوضيح، لم يجرِ أي تحقيق معنا بهذا الموضوع، وبالتالي نستغرب كليا إعلان أي نتائج مترتبة على هذه المسألة، وبالتالي فإن قرار معاليه باطل شكلا».
وأضاف حمد: «مع احتفاظنا بكامل حقوقنا القانونية المتعلقة بشكل ومضمون قرار وزير الداخلية والبلديات رقم 1439/2015 والنتائج التي يمكن أن تترتب عن هذا القرار، بما في ذلك التشهير والإيذاء المعنوي ومخالفة القانون، واستطرادا فإننا نطالب بتحقيق كامل في هذا الإطار تبيانا للحقيقة وتحديدا للمسؤوليات».