بين خطاب ميشال عون في 30 أيار من العام الماضي أمام وفود شعبية في الرابية قال خلاله للعونيين «نحتاج إلى أقدامكم لتنزلوا الى الشارع كما فعلتم سابقاً في قصر بعبدا»، وخطاب 14 آذار قبل أيام الذي طلب فيه من أنصاره أن «يجهّزوا سواعدهم» تحت سقف «رفض التمديد للوضع المستمرّ منذ العام 1990»، ارتسم جزء من مشهد المواجهة الكبرى التي أعلنها ميشال عون منذ لحظة وصوله الى لبنان في السابع من أيار 2005.
في كل مراحل رفع السقوف على مدى 11 عاماً، انتظم العونيون صفّاً واحداً خلف «جنرالهم» من دون مشاكسة ولا اعتراض على الاستراتيجيات وحتّى التحالفات والتموضعات الظرفية. خيضت المواجهات على أكثر من مستوى وبوجه أكثر من خصم.. وحليف.
عناوين كبرى وأخرى تفصيلية أشعرت العونيين أن «الكون» يدور حولهم. لا حكومات من دونهم ولا رئاسة اولى إلا إذا طوّبت لـ «الجنرال». لا تحالفات إلا و «البرتقالي» زعيمها. لا تعيينات إلا عبر الرابية. العوني «يعلّم» القواتي والكتائبي والشمعوني كيف تكون الانتخابات الحزبية الداخلية، وهو فقط مَن «يصدّر» للآخرين المفهوم الحقيقي للحرية والسيادة والاستقلال، كي تُميّز «البضاعة الأصلية» عن «التايوانية». العونيون هم الأساتذة في «مواد» الشراكة والتوازن، والميثاقية، والمناصفة، والدفاع عن النفس والحقوق، وحياكة التفاهمات، وهندسة قوانين الانتخاب، ورفض التبعية، ومواجهة الفساد، والمقاومة السياسية، وصدّ الانتهاكات للقوانين والدستور، وتعميم العلمنة، وإعادة تكوين السلطة… والبقية تلامذة!
يعطي العونيون جزءاً من يومياتهم للنقاش في «المواد التدريسية» التي يعلّمونها للآخرين، لكن الجزء الاكبر والأهمّ من اهتماماتهم يذهب نحو مكان آخر تماماً، لا مكان فيه للعصف الفكري والاستراتيجيات وأساليب المواجهة في الاستحقاقات المصيرية، بل نحو ما يسهم أكثر في رفع ضغطهم، أو توترهم، او إدخال الطمأنينة الى بالهم المشغول: مَن استقبل «الجنرال» بعيداً عن الإعلام، ولمَن ضَحِك، ومَن وَعد، ولمَن وجّه إطراء، ومَن دعا الى الغداء او العشاء، ومَن اختار أن «يمشي» معه في حديقة الرابية صباحاً أو يتناول وإياه فنجان القهوة الصباحية…
في اليومين الماضيين انشغل العونيون وخصومهم ايضاً، تحديداً في كسروان والمتن وبيروت، في فكّ شفيرة الطاولة الرئيسية التي جلس عليها عون أثناء مشاركته بذكرى 14 آذار 1989.
فبدعوة شخصية من عون شارك «الجنرال» والوزير جبران باسيل عشاء الحبتور رئيس بلدية جونية السابق جوان حبيش وثلاثة مرشحين الى الانتخابات النيابية من غير النواب هم وليد أبو سليمان وجان ابو جودة في المتن، ونقولا تويني في بيروت، إضافة الى أصدقاء شخصيين هم ستيفان حاج توما وريا الداعوق وريتا موسى…
ليس في الأمر أي جديد لناحية تمييز عون عادة لبعض ضيوفه بإجلاسهم على طاولته الرئيسية في المناسبات، لكن الأمر يكتسب أهمية مضاعفة مع هذا العدد اللافت من المرشحين للنيابة على طاولة «المعلّم»، وحين يكون «التمديد» لمجلس النواب قد قطع ثلثي الولاية وصارت الأحاديث عن الانتخابات النيابية وقانون الانتخاب أقرب من أي وقت، تحديداً بعدما دخل التفاهم العوني – القواتي بقوة على خط أي نقاش يتعلق بالاستحقاقات البلدية والنيابية المقبلة.
من دون مبالغة، وبما أن «الجنرال» أصلاً لم يطلق أي جديد فاقع في خطابه الآذاري يمكن أن يفسّر كمحاولة لقلب الطاولة بوجه معرقلي وصوله الى رئاسة الجمهورية، طغى الاهتمام العوني بشكل لافت على «صورة» الطاولة الرئيسية أكثر بكثير من مضمون رسائل المضيف السياسية.
بالرغم من المعارك الكبرى التي يخوضها العونيون على جبهة الرئاسة وتدعيم توافقهم مع سمير جعجع وفتح «خط عسكري» صوب صناديق الاقتراع، تبقى كل «حركة» او لفتة من جانب رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» بمثابة رسالة يبني عليها المتلقون سيناريوهات تتحوّل أحياناً الى كوابيس لدى آخرين او مفتاح فرج لغيرهم…
معركة جونية البلدية هي واحدة من مفاتيح معركة كسروان النيابية. الشيخ جوان حبيش، صديق الرابية بعد خصومة، مرشّح جدي على لائحة كسروان النيابية، هو الذي يحضّر نفسه منذ العام 2013، بمباركة شخصية من عون، لمزاحمة ركاب البوسطة بمقاعدها الخمسة.
المتن يغلي بالمرشحين (أقفل باب الترشيحات عام 2013 على 51 مرشحاً لـ 8 مقاعد). هناك أسماء مرشّحة لان تطير وأسماء تعدّ العدة للجلوس مكان «المنكوبين». كل «عطسة» في المتن يستحيل فصلها عن هاجس الصناديق، بما في ذلك العقد النفسية التي تتحكّم ببعض مفاتيح اللعبة النيابية.
في بيروت «التيار الوطني الحر» يكون أو لا يكون. ورقة «النيات» المسيحية تفرض نفسها، وقد تكون «البلديات» المدخل الإلزامي لتحالفات أكثر أماناً مع «القوات اللبنانية» في «النيابة» من دون تجاهل آثار «الكدمات» التي خلّفتها معركة الانتخابات الداخلية الحزبية في «التيار» على جسد العونيين أنفسهم.
كل ذلك يجعل من أي حركة يقوم بها عون لها مغزى. قد تكون لمصلحة المرشح او ضدّه. المهم انها لا تمرّ من دون تشريح أبعادها لدى «البرتقاليين» وراصديهم.
إنه زمن النيابة حتى من دون انتخابات ولا لوائح شطب. ثقافة لا يمكن أن تغيب عن سماء الرابية. يسعى عملياً بعض المرشحين لاسترضاء توفيق، مدير مكتب عون ومهندس لقاءاته اليومية، لمدة أشهر قبل أن يحجزوا تاريخاً يتيماً لساعة واحدة على اجندة «الجنرال» المثقلة باللقاءات الدَسمة، وأحياناً كثيرة الـ «الثقيلة» التي تمرّ كالبلاطة على قلب «الجنرال».
صحيح أن الغالبية الساحقة من المرشّحين المحسوبين على «التيار» أقفلت دكانة الخدمات بشكل شبه تام، باستثناء بعض الخدمات التي لا تتطلّب تحرير الشيكات و «تعذيب» الجيبة، لكن الكلّ يتنفّس انتخابات.
حلقات نقاش يومية تفتح بشأن دور «المواطن» شامل روكز في المرحلة المقبلة وخارطة طريقه ليس فقط باتجاه النيابة أو العمل الوزاري إنما قدرته على حجز مكان له في قيادة «التيار» بعد أربع سنوات. يصبح الأمر أكثر صعوبة حين تحضر الإحصاءات «من حواضر البيت» عن الحصة التي يمكن أن تأخذها «القوات» من درب مرشّحي «التيار» في الأقضية المسيحية، وعن مصير التحالف في حال لم يصل عون إلى قصر بعبدا، والتفتيش بالنهاية عن «سرّ» الجنرال في تفضيل مرشح على آخر: أن يكون رجل أعمال، خدماتي، قويّ في بيئته، مناضل، تكنوقراط، مبيّض يُسمع «الجنرال» ما يحبّ أن يسمعه، مقتنع بالمبادئ… أو «خلطة» من كلّ.