في هذه الأيام، في صغائر الأمور وفي كبائرها، فتّش عن الرئاسة. فكيف إذا كان صاحب المبادرة مارونياً، والملعبُ جنوبياً؟
فعلها الرئيس أمين الجميل واخترق «الشرائط الحدودية» لتطأ قدماه «أرض المقاومة» في الجنوب. زيارة استثنائية في مسيرة الرجل وحزبه، لم يقم بها إلّا بعد مرور أكثر من 14 عاماً على التحرير، وتحديداً بعدما أملت عليه حساباته أنّ ساعتها حانت، فأزال الحواجز الشائكة والخطوط الحمر، ووقف على مسافة أمتار من الخط الأزرق.
وحده الشيخ يعطي للزيارة أهمية بالغة معوّلاً على معانيها وأبعادها. يعتقد أنّها قد تفتح أمامه أبواباً موصدة، وتمنحه بركة يفتقدها الآخرون، فيصير «رجل التوافق المنتظر» الذي بمقدوره أن ينفض غبار الشغور عن كرسي بعبدا ويعود مرة ثانية للرئاسة، من بوابة الانفتاح.
لا يقولها الرجل بالفم الملآن، لكنه يقصدها بكل حرف وكلمة يدلي بهما. منذ مدة من الزمن يتصرف رئيس الجمهورية السابق بصفة «الجوهرجي»، فيقيس خطاباته بـ»ميزان الزئبق»، حيث لا ضرورة للطالع والنازل. لا بل سيرٌ جنب الحائط، لعلّه يوصله إلى بعبدا على حصان الفيتوات المتبادلة بين محوري الخصومة، والتي تشطب «إخوته بالمارونية»، ميشال عون وسمير جعجع، عن اللائحة الذهبية.
حتى أنّ سامي الجميل، المتهم دوماً بحرق طبخات والده من خلال التصويب يمنة ويسرة، يغيب عن السمع وعن المنابر. يقلل من طلاته كي يخفف من «رصاصاته»، مفسحاً المجال أمام فرصة يعتقد الرئيس السابق ومن حوله، أنّها من ذهب. لكن خارج مربع بكفيا، تبدو الصورة مختلفة. لا يثير الحراك الجميليّ الريبة في نفوس الرفاق أو الحلفاء، ولا حتى يزعجهم. بكثير من البرودة، وبعض من الخفّة، ينظرون إلى الأداء الانفتاحي للرئيس السابق تجاه الخصوم، وتحديداً «حزب الله».
بتقديرهم أن ما يقوم به أمين الجميل، لن يوصله إلى جنّة الرئاسة، حتى لو سكن الرجل في عمق الضاحية الجنوبية. ولا يكفي القيام برحلات التسويق في الجنوب اللبناني لسلوك طريق القصر. لهذه الأخيرة متطلبات وشروط أخرى، لن تكفيها الجولات السياحية ولا حتى المسارات الحوارية المتقطعة.
طبعاً، يدرك حلفاء الشيخ أمين أن القطبة المخفية للحوار الطارئ العابر للاصطفافات والذي قد يكون موضعياً وآنياً، هي في انتخابات «الماروني الأول»، ويعرفون جيداً أنّ رئيس حزب «الكتائب» مزعوج من اللامبالاة التي تتعامل فيها قوى «14 آذار» مع «مشروع ترشحه» الذي لم يبصر النور بعد.
فحتى اللحظة، تناور قوى «14 آذار» في مسألة ترشيح أمين الجميل. تعاند في تبنيها القضية بحجة وجود مرشح قوي في صفوفها على «قدر المواجهة» هو سمير جعجع. وبالتالي لا داعي لإجراء هذا التبديل.. إلا إذا كان بمقدور الجميل أن يسرق أصواتاً إضافية من المعسكر الخصم تمكّنه من قلب المعادلة.
بالفعل، يتردد في صفوف هذا الفريق، أنّ سعد الحريري وسمير جعجع أبلغا شريكهما الثالث بشكل واضح ورسمي أنّهما مستعدان للوقوف وراءه والتصويت لمصلحته إذا نجح في سحب كتلة ناخبة من الجانب الآخر لمصلحته. عندها تسقط كل الفيتوات والأعذار وتصبح الدرب أمامه سالكة نحو الكرسي الوثير.
أما غير ذلك، فسيبقي الفريق الآذاري وضعيته على ما هي عليه، خلف ترشيح جعجع.. إلا إذا نجح الحوار المنتظر مع «حزب الله» في تغيير المعادلة.
فالتباين الواضح للعيان في الحيثيات الشعبية هو الذي يعطي الأولوية لجعجع على الجميل، كما يؤكد آذاريون، كما أنّ الأول هو أكثر من يؤدي مهمة «المواجهة» في هذا الاستحقاق، ولهذا سايره «المستقبل» في حسابات الترشيح، ولم يكسره.
لكن ذلك لا يحبط رئيس الجمهورية السابق ولا يخفف من عزيمته، وهو لذلك قرر اختراق «عرين» العماد ميشال عون، كما يرى حلفاؤه، وفي باله أنّه سيتمكن من كسر ستاتيكو «14 آذار» بالإبقاء على «سيد معراب» في الواجهة، مع أنّ جنرال الرابية بذاته هو من ألزم الفريق الآذاري بالتمسك برئيس «القوات» كمرشح قوي، من خلال المبادرة التي تقدم بها وحصر المنافسة بينه وبين «الحكيم».
ولهذا يقول أحد الآذاريين إنّ ما يقوم به الرئيس الجميل لا يتعدى «النفخ في قِربة مثقوبة»، حيث قرر اللعب في الحديقة الخلفية لميشال عون، حيث يرقص ويدبك بحرفية عالية ومن دون أن يرفّ له جفن.
وهكذا لا يبدي الآذاريون الكثير من الجدية لما يمكن لحراك رئيس «الكتائب» أن يقدمه، ولا حاجة بالتالي بنظرهم للتصويب على الزيارة الجنوبية ولا على الخطوط المفتوحة بين الصيفي والضاحية الجنوبية، تاركين المهمة لجنرال الرابية، الذي إن شعر بخطر ما يأتيه من «جيرانه المتنيين» فهو سيتكفل بخربطة مشاريعهم والعودة بهم إلى بكفيا.
بالنسبة لهؤلاء، الكنيسة القريبة هي التي تشفي، ويفترض بالرئيس أمين الجميل أن يجالس حليفه سمير جعجع لفعله يقنعه بالتراجع خطوة إلى الوراء كي يتقدم هو نحو المنصة الأمامية، ويصير مرشحاً رسمياً لقوى «14 آذار». أما غير ذلك، فلا يتعدى اللعب في الوقت الضائع.